في أحد الأبراج الشاهقة لمجمع «مدينة العواصم»، يبدو أن الديكتاتور السوري بشار الأسد قد أنزل حقائبه في 8 كانون الأول الفائت، بعد أن طُرد من السلطة على يد المتمردين الإسلاميين من جماعة «هيئة تحرير الشام».
أين بشار؟
في تقرير لموقع «franceinfo»، سُئل أحد مديري هذا المجمع العقاري عن هذه الإمكانية، تهرّب من الرد قائلاً: «لست مخولاً بالكشف عن هذا النوع من المعلومات».
في هذا الحي التجاري الواقع في غرب العاصمة الروسية، لعائلة الأسد جيران من الشركات متعددة الجنسيات، الفنادق، الأوليغارشيين، وحتى مؤثرين مشهورين.
في صور الشقق الداخلية التي اطلع عليها الموقع من صحفية روسية «يمكن رؤية تجهيزات حديثة وأثاث فاخر». تقول الصحفية تحت شرط عدم الكشف عن هويتها: «الإيجارات هناك باهظة جداً، لا يعيش فيها سوى الطبقة الراقية. رغم فرارهم، لا يزال لدى عائلة الأسد بعض الإمكانات على ما يبدو».
مثلا، يُعرض للبيع حاليا في أحد هذه الأبراج شقة مكونة من ثلاث غرف بمساحة 119 متراً مربعاً بسعر 1.9 مليون دولار.
__«طائرات محمّلة بالنقود بين دمشق وموسكو
رغم أن انتقال عائلة الأسد إلى موسكو تم قسرًا وعلى بعد 3,400 كيلومتر من دمشق، إلا أن العائلة لم تصل خاوية الوفاض. فبحسب الباحث إياد حميد، من “برنامج تطوير القانون السوري” ومقره لندن، “لقد أمضوا سنوات في تحويل أصولهم نحو روسيا، حيث اشتروا ممتلكات وأسسوا شركات.”
أما صحيفة فايننشال تايمز، فتروي تفاصيل مدهشة: جسر جوي استمر لمدة عام ونصف، بين مارس 2018 وسبتمبر 2019، نُقل خلاله ما يقارب 250 مليون دولار (نحو 220 مليون يورو) من الأوراق النقدية الصغيرة. طنين من فئات الـ100 والـ500 دولار، هبطت على دفعات في موسكو.
ووفقًا لتقرير صادر عن وزارة الخارجية الأميركية في عام 2022، تُقدّر ثروة عائلة الأسد بما لا يقل عن ملياري دولار (1.75 مليار يورو)، وهي أموال جُمعت من خلال “أنشطة اقتصادية غير مشروعة، مثل التهريب، وتجارة الأسلحة، والمخدرات، وفرض الحماية، والابتزاز”، على حد وصف التقرير.
ثروة كافية تمامًا لتأمين مستقبل الأبناء الثلاثة: حافظ (24 عامًا)، زين (21 عامًا)، وكريم (20 عامًا)، بل ولتحمّل تكاليف العلاج الباهظة الناجمة عن إصابة الأم، أسماء الأسد، بسرطان الدم (اللوكيميا)، بحسب ما تم تداوله.
ستة أشهر في الظل: لا أثر لبشار الأسد أو زوجته
رغم مرور ستة أشهر على لجوئه إلى موسكو، لم يظهر الديكتاتور السوري المخلوع، ولا زوجته أسماء، علنًا. لا صور، لا تصريحات، ولا حتى لمحة عابرة. آخر خطاب رسمي له يعود إلى 16 ديسمبر، أي بعد ثمانية أيام فقط من سقوطه. حينها، بدا حريصًا على تصحيح “الرواية”، قائلاً:
“خروجي من سوريا لم يكن مخططًا، ولم يتم في اللحظات الأخيرة من المعركة، خلافًا لما يُشاع. لقد طالبت موسكو (…) بإجلائي الفوري إلى روسيا مساء الأحد 8 ديسمبر.”
لكن كيف يمكن تفسير هذا الصمت المفاجئ، من رجلٍ اعتاد خلال 24 عامًا من الحكم الدموي أن يُظهر نفسه في كل مناسبة؟
الخبير الجغرافي المختص بالشأن السوري، فابريس بالانش، والذي التقى الأسد عام 2016، يقدّم تفسيرًا محتملًا:
“من المحتمل أن الكرملين أمره بالتواري عن الأنظار. فهو الآن تحت الحماية، ولكن أيضًا تحت الرقابة المشددة من الأجهزة الروسية، وتحركاته على الأرجح محدودة للغاية.”
وربما يعود ذلك أيضًا إلى أن منطقة “مدينة العواصم”، حيث يقيم، باتت هدفًا منتظمًا لهجمات الطائرات المسيّرة الأوكرانية.
في هذا “الإقامة الجبرية المقنّعة”، تابع الأسد ما يجري في بلاده عن بُعد: صعود أحمد الشرع إلى رئاسة سوريا، تخريب القصر الجمهوري في دمشق، وتدمير ضريح والده، الرئيس السابق حافظ الأسد، في مسقط رأسه القرداحة.
وشهد أيضًا، بعينٍ عاجزة، أخبار المجازر التي استهدفت أبناء طائفته العلوية، تلك الطائفة التي طالما ارتبط اسمه بها.
هل لا يزال يراوده حلم العودة إلى السلطة؟ الباحث إياد حميد يعتقد ذلك، قائلاً:
“بشار الأسد شخص مهووس بذاته ومتعجرف، مقتنع بأنه يُجسّد سوريا. لا شك أنه يتابع تطورات البلاد وهو غير قادر على استيعاب أنها تمضي قُدمًا من دونه.”
وعن يومياته؟ يقول رياض الأسد، ابن عمه المقيم في لندن، بحدة:
“لا أعلم شيئًا عن تفاصيل حياته اليومية، ولا أرغب في معرفتها.”
رياض، الذي انشق مبكرًا عن النظام، يوضح:
“غادرت سوريا في التاسعة من عمري، عام 1984، بسبب الخلافات بين والدي ووالد بشار. بعد كل ما ارتكبوه من جرائم، ماذا يمكنهم أن يقولوا؟ هل سيعتذرون؟ لقد فات الأوان على ذلك.”
لا لقاء رسمي بين بوتين والأسد
محاولة الاقتراب من عائلة الأسد في موسكو أشبه بالاصطدام بجدار صامت. حافظ، الابن الأكبر لبشار، تجاهل كل محاولات التواصل. إلا أن حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي تكشف لمحات نادرة عن حياته في روسيا.
في مقطع فيديو تحقّقت franceinfo من صحته، يظهر حافظ وهو يتجوّل على جسر بولشوي قرب الكرملين، وكان ذلك بتاريخ 12 فبراير.
وبعد أربعة أيام، في 16 من الشهر ذاته، نشر صورة لنفسه أمام جامعة لومونوسوف الحكومية، المعروفة بكونها من أبرز الصروح الأكاديمية في روسيا.
تلك الجامعة التي قدّم فيها أطروحته في الرياضيات، قبيل سقوط والده.
وبعد ذلك؟ لا شيء يُذكر.
الكرملين لا يُكثر الكلام عن “ضيفه المربك”
حتى موسكو، بدورها، لا تُظهر كثيرًا من الحماس تجاه هذا “الضيف” الثقيل. ففي ديسمبر الماضي، وعد فلاديمير بوتين بأنه سيتحدث “بالتأكيد” مع بشار الأسد، قائلاً إنه “ينوي ذلك على الأقل”. لكن بعد مرور ستة أشهر، لم يُسجّل أي لقاء رسمي بين الرئيس الروسي وطلب اللجوء “الاستثنائي” هذا.
يعلّق فابريس بالانش على ذلك بالقول:
“ينبغي أن نفهم أن بوتين لم يكن متحمسًا فعلًا لاستقباله. لم يحتفظ به بدافع الشفقة. بوتين يكره الخاسرين. لكنه رأى أنه من الأفضل وجوده في موسكو على أن يُعلَّق على مشنقة في دمشق.”
ويضيف: “إنه نوع من بوليصة تأمين، ورسالة غير مباشرة لباقي القادة المقرّبين من موسكو: ‘إن اضطررتم للفرار، فروسيا ستكون ملاذًا لكم.‘”
“سنطارده حتى النهاية”
ورغم وجوده في موسكو، إلا أن بشار الأسد قد لا يشعر بالأمان الكامل. يقول أحد النشطاء السوريين في حديث لـ franceinfo، وقد قُتل عدد من أفراد عائلته على يد النظام السوري:
“سنطارده حتى النهاية. لن نتهاون، ولن نغفر. العدالة ستُنجز يومًا ما لضحايا هذا النظام.”
وفي مكاتب الشبكة السورية لحقوق الإنسان (SNHR)، لا يزال الأمل قائمًا برؤية الأسد في قفص الاتهام يومًا ما.
يؤكد فاضل عبد الغني، مؤسس المنظمة:
“هذا الأمل لا ينبع فقط من رغبة شخصية، بل يستند إلى قناعة راسخة تقوم على مبادئ القانون الدولي، وعلى أدلة موثقة على نطاق واسع، وعلى الإصرار الذي لا يلين لآلاف الضحايا والناجين الباحثين عن العدالة.”
«franceinfo»