أثار فيديو صُوّر داخل إحدى المدارس الخاصة في مدينة طرابلس، تضمّن آراء لطالبات صغيرات لا تتجاوز أعمارهن ست سنوات، وهو أمر واضح من ملامح طفولتهن وبدايات تبدّل أسنانهنّ، حول شجرة الميلاد ورأس السنة، موجة واسعة من الغضب والانقسام، سرعان ما خرجت من إطار النقاش التربوي والديني إلى مسار أمني وقضائي، مع فتح تحقيق رسمي وتوقيف الشاب الذي صوّر الفيديو. غير أنّ السؤال الجوهر: هل يستحق هذا المشهد كل هذه “الهمروجة”؟
قد يكون الجواب قد جاء على لسان البطريرك الماروني بشارة الراعي من دار الفتوى في طرابلس اليوم عندما قال: ” نعتبر أنفسنا في منزلنا وبين أهلنا وناسنا، وأهل طرابلس لديهم عاطفة كبيرة لوطنهم”. هذا الموقف يختصر الحاجة الملحّة إلى ترسيخ الوحدة الوطنية وتعزيز التعايش بين مختلف المكوّنات اللبنانية، ويؤكد أن الحوار والتربية يبقيان الطريق الأجدى لحماية المجتمع من الانقسامات، لا اللجوء إلى المقاربات القضائية والأمنية وحدها.
لا شك أن مضمون الفيديو، كما جرى تداوله، يتقاطع مع مفاهيم حسّاسة تتعلّق بالدين والآخر، ولا سيما حين تصدر عبارات مثل: “أعوذ بالله، أنا لا أتشبّه بالكفّار”، أو “نحن مسلمون ولا نتشارك بأعياد المُشركين”. غير أنّ هذه العبارات، على قسوتها في نظر البعض، تطرح سؤالًا بديهيًا: هل تدرك هؤلاء الطالبات أصلًا معنى كلمات مثل “كفّار” أو “مُشركين”؟ وهل يملكن الوعي الكافي لفهم دلالاتها، أم أنهن يردّدن ما تمّ تلقينهنّ من دون إدراك حقيقي لمعناه؟
الصادم في ما جرى ليس مضمون الفيديو بحدّ ذاته، بل طريقة تلقّيه والتعامل معه. فبدل فتح نقاش تربوي هادئ حول التنوّع الديني مع أهالي هؤلاء الأطفال، ووزارة التربية مثلًا للتعاون فيما بينهم ومساعدتهم في بناء وعي أبنائهم وترسيخ ثقافة الاختلاف وتطوير المناهج، جرى اللجوء سريعًا إلى منطق التجريم والتحقيق والتوقيف.
وفي هذا السياق، لا بد من الاعتراف بأن الشرخ في المجتمع اللبناني يزداد بوتيرة سريعة: انقسام طائفي، ديني، ثقافي، ناتج عن تراكمات من سوء الفهم والخوف المتبادل. هذا الفيديو لم يصنع الشرخ، بل كشفه. والغضب الذي انفجر على وسائل التواصل الاجتماعي – من الطرفين – يؤكد أن المشكلة أعمق بكثير من شجرة ميلاد أو إجابة طفلة.
لبنان الذي لطالما افتخر بتنوّعه لا يستطيع صون هذا التنوّع عبر إسكات الآراء، بل من خلال تفكيكها ونقدها ووضعها في سياقها الصحيح. فالإيمان الديني لا يُفرض بالقوة ولا يُحاكَم بالقضاء، كما أن العيش المشترك لا يقوم على الإنكار ولا على التخوين المتبادل.
ومن هنا، كا ن الأجدى تحويل هذه الحادثة إلى فرصة لنقاش وطني صريح، يساهم في تعليم أبنائنا كيفية تقبّل الاختلاف واحترام أديان الآخرين، والتعامل مع التنوّع كقيمة غنى وقوة، لا كساحة صراع وانقسام.
