يختلف الناس في طريقة تفاعلهم مع النكات. فبينما يضحك البعض من أعماق قلبه على نكتة تراها فئة أخرى “سيئة الذوق”، يبقى السؤال مطروحًا: لماذا لا نتذوق جميعًا الفكاهة بالطريقة نفسها؟ وهل يمكن أن يكشف هذا الاختلاف شيئًا أعمق من مجرد اختلاف في الحسّ الساخر؟
تشير دراسات علمية حديثة إلى أن حسّ الفكاهة ليس مجرد وسيلة للتسلية أو كسر الجمود الاجتماعي، بل قد يكون انعكاسًا مباشرًا لقدراتنا الذهنية وطريقتنا في تحليل العالم من حولنا.
الفكاهة أو السخرية السوداء
الفكاهة السوداء، أو ما يُعرف أيضًا بـ السخرية السوداء، هي نوع من الدعابة يقوم على التعامل مع المواضيع الحساسة أو المظلمة — كالموت، المرض، أو المآسي الإنسانية — بأسلوب ساخر أو ساخط.
الغاية منها ليست التقليل من شأن المعاناة، بل تحويل المأساة إلى مادة للتأمل والضحك الذكي، في محاولة للتكيّف مع الواقع وتخفيف وطأته.
هذا النوع من الفكاهة يتطلب قدرة على الفصل العاطفي المؤقت ورؤية الأمور من منظور فلسفي أو رمزي، وهو ما يجعلها غير مفهومة أو غير مقبولة عند البعض.
دراسة تكشف العلاقة بين الذكاء والفكاهة الس وداء
في دراسة أجرتها جامعة فيينا ونُشرت في مجلة Cognitive Processing (ونقلها موقع Doctissimo)، وجد الباحثون أن الأشخاص الذين يحبون الفكاهة السوداء يتمتعون بمعدلات ذكاء أعلى من المتوسط. وعلى عكس الصورة النمطية التي تربط هذا النوع من النكات بالقسوة أو البرود العاطفي، أوضح الباحثون أن هؤلاء الأشخاص في الواقع أكثر ذكاءً، وأكثر هدوءًا، وأقل عدوانية.
للتوصّل لهذه النتيجة، خضع 156 شخصًا بالغًا لسلسلة من التجارب. طُلب منهم قراءة اثنتي عشرة لوحة من سلسلة القصص المصوّرة الألمانية The Black Book المعروفة بفكاهتها السوداء، ثم خضعوا لاختبارات لقياس الذكاء والمزاج ومستوى العدوانية.
الذكاء والهدوء يسيران معًا
أظهرت النتائج أن الذين فهموا النكات السوداء واستمتعوا بها حققوا أعلى معدلات ذكاء (109.7 شفويًا و118.1 كتابيًا)، وبدوا أقل عدوانية وأكثر توازنًا نفسيًا.
أما الذين فهموا النكات دون الإعجاب بها فكانوا أكثر توترًا وعدوانية، بمعدل ذكاء متوسط. بينما الذين لم يفهموا النكات جيدًا أظهروا مستوى معرفيًا مقبولًا لكن دون تفاعل واضح.
“ويقول الباحثون إن “هذه النتائج جاءت مطابقة مع أبحاث سابقة أثبتت وجود علاقة بين الذكاء وحسّ الفكاهة. ويبدو أن حبّ الفكاهة السوداء ليس ميلًا مرضيًا، بل دليل على عقلٍ مرنٍ ومنظّم.”
لماذا ترتبط الفكاهة السوداء بالذكاء؟
خلص الباحثون إنّ فهم الفكاهة السوداء يتطلّب معالجة عقلية معقّدة مثل:
استيعاب الغموض والمعاني المزدوجة،
التقاط الإشارات غير المباشرة،
وتقبّل المفارقات والعبث دون استياء.
ورأوا أنّ هذه العمليات تحتاج إلى قدرات لغوية عالية، وإدراك اجتماعي دقيق، واستقرار عاطفي يسمح لصاحبه بالنظر إلى المآسي بعينٍ متفهمة لا قاسية.
الضحك كمرآة للذكاء
أن تضحك من نكتة سوداء لا يعني أنك غير حساس، بل أنك قادر على فهم المفارقات المعقّدة في الحياة دون أن تفقد إنسانيتك.
وهذا ما يجعل من الفكاهة السوداء — في نظر العلماء — إحدى أكثر علامات الذكاء دقّة ورهافة، لأنها تكشف عقلًا متزنًا قادرًا على التفكير النقدي والتعامل مع المواقف الصعبة بخفة ظلّ وعمق في آنٍ واحد.
