ما إن أعلنت وزارة الصحة اللبنانية عن قرارها بوقف إنتاج وسحب منتجات شركة “تنورين” للمياه، حتى اشتعلت الساحة اللبنانية، لا بنقاش علمي حول خطورة البكتيريا المكتشفة، بل بسيل من الاتهامات والتخمينات السياسية والطائفية.
وعلى اعتبار أن “سوء الظنّ من حسن الفطن”، سارع كثيرون إلى طرح أسئلة جانبية لا تمتّ لجوهر القضية الأساسية بصلّة والتي تتمثّل بالسؤال الآتي: “هل المياه ملوثة فعلًا؟” إذ برزت تساؤلات حول سبب صدور القرار في غياب الوزير الأصيل ولماذا استُهدفت “مياه تنورين” دون غيرها من الشركات العاملة في قطاع المياه، وما إذا كانت ثمّة خلفيات سياسية أو طائفية وراء القرار، كون الشركة مملوكة من قبل أشخاص ينتمون إلى طائفة معيّنة… حتى أن بعض الأصوات ذهبت إلى حد القول إن الهدف من القرار هو تمهيد السوق أمام شركات مياه محسوبة على طوائف أخرى.
فقط في لبنان، قد تكون أسئلة حول توقيت القرار وشفافية العيّنات، وحيادية الوزارة منطقية ومشروعة، لكن ما حدث تجاوز إطار “الشك المشروع”، إلى حدود الهروب إلى الأمام، نحو قوقعة الطائفة، حيث تفصّل كل قضية وفق “هوية” الجهة المستهدفة، لا وفق طبيعة الفضيحة ومضمونها.
تُدان شركة “تنورين” أو تُبرّأ، هذه مسألة تُحسم بالتحاليل العلمية لا بالولاءات السياسية. لكن الأسوأ من أي بكتيريا في المياه، هو هذا الميل المتكرّر لدى اللبنانيين لتسييس كل شيء، وخلق مظلومية طائفية من أبسط الملفات، بحيث يصبح أي قرار إداري، حتى لو استند إلى فحص مخبري، متّهمًا سلفًا ومحمّلًا بنوايا دفينة.
في بلد تُدار فيه الدولة وكأنها اتحاد طوائف لا مؤسسات، لا عجب أن تتحوّل قارورة مياه إلى قضية وجود، وهنا، تقع المسؤولية الكبرى على الإعلام وعلى السياسيين، الذين بدلاً من توضيح الحقيقة، ينخرط بعضهم في إذكاء الفتنة وتحوير النقاش.
“تنورين” ليست البداية ولن تكون النهاية… مشكلتنا أعمق من شركة، وأخطر من بكتيريا، نحن أمام مشهد لا يثق فيه المواطن بدولته، لكنه مستعدّ لتصديق كل ما يوافق هواه، وهنا تكمن الكارثة: بلد لا يثق بشيء… لا ولن يعرف كيف يحاسب أحد. .