مع حلول الشتاء وتراجع ساعات النهار، يدخل كثيرون في حالة من الكآبة الموسمية، يذهبون بالعتمة إلى أعمالهم، ولا يعودون إلا مع حلول الظلام، ما يجعل المزاج أثقل والحماسة أضعف، وتصبح الشاشات الملاذ الوحيد للتسلية والدفء.
لكن المفارقة التي كشفتها الأبحاث العلمية، هي أن الظلام ليس مجرد خلفية للانكماش والرتابة… بل قد يكون عاملًا محفّزًا للإبداع، وللحميمية، وللتفكير الهادئ. كيف؟
الظلام يولّد الإبداع
في دراسة أجراها باحثون في جامعة هوهنهايم الألمانية كشفت أن الإضاءة الخافتة تعزّز القدرات الإبداعية.
فقد طُلب من طلاب رسم مخلوقات خيالية تحت مستويات مختلفة من الضوء، فتبيّن أن الرسوم الأكثر أصالة وجودة كانت تلك التي أنجزت في بيئة شبه مظلمة.
وفسّر العلماء ذلك بأن “العتْمة تولّد شعورًا بالاستقلالية والحرية الداخلية”، وهذان الشعوران يحفّزان المخيّلة. وبذلك يصبح الشتاء، على قسوته، بيئة خصبة لابتكار الأفكار وللانغماس في الأعمال التي تحتاج خيالًا ومساحة داخلية.
الرومانسية… تزدهر عندما يخفت الضوء
تجارب أخرى ذهبت أبعد من الإبداع، لتكشف أن الإضاءة المنخفضة تعزّز المشاعر العاطفية. ففي دراسة نفسية تقييمية لصور لفتاة في ضوء قوي وآخر خافت، رأى المشاركون – خصوصًا الرجال منهم – أن الفتاة مع الضوء الخافت، بدت أجمل، وأكثر جاذبية، حتى أن نسبة المشتركين الذين أُغرموا بها بدت أعلى.
وربط الباحثون هذه الظاهرة في سلوك الناس أيضًا، فقد بيّنت دراسة أمريكية أن عمليات البحث على الإنترنت عن المواضيع المرتبطة بالعلاقات والجنس تسجّل ذروتين سنويًا، إحداهما في ديسمبر، حين يبلغ طول الليل ذروته.
الظلام يشجّع على التفكير… ويسجّل حضورًا في قرارات الشراء
الإضاءة ليست عاملًا نفسيًا فحسب، بل سلوكيًا أيضًا، ففي تجربة داخل قسم النبيذ في أحد المطاعم الأميركية، تبين أن الزبائن يقضون وقتًا أطول في الأجواء الخافتة، ويتخذون قرارات أكثر تأنّيًا ودقة، بينما تدفعهم الإضاءة القوية نحو الشراء الاندفاعي.
وفي دراسة أخرى داخل سوبرماركت تونسي، أدّت الإضاءة القوية داخل براد لبيع الجبنة إلى زيادة المشتريات، لأن المستهلكين اعترفوا لاحقًا بأنهم اشتروا أكثر مما خططوا له.
ما الذي يحدث؟
يشير الباحثون إلى أن الضوء القوي يرفع مستوى الإثارة ويخفّض التفكير العقلاني، فيما تساعد الظلمة على الهدوء والتفكير المنطقي.
الشتاء… مساحة للانكفاء الإيجابي
على عكس الصورة التقليدية للشتاء كموسم كآبة، توحي هذه الدراسات بأن الظلام قد يحمل بُعدًا إيجابيًا يتم تجاهله فهو يمنح فرصة لمراجعة الذات، ولإعادة ترتيب الأفكار، وللتواصل مع الآخرين بطريقة أعمق، وربما لإعادة إحياء شرارات الرومانسية.
ومن هنا فإن الليل ليس دائمًا مرادفًا “للإنطفاء”، فالضوء المنخفض يستطيع تعزيز الإبداع، وتقوية الروابط العاطفية وتحسين التفكير إضافة إلى الحدّ من الاندفاع وتوجيه المرء نحو اختيارات أكثر حكمة.
ولكارهي الشتاء والعتمة نقول: لا تخشوا الظلام… بل امنحوه فرصة ليكشف ما يمكن أن يضيئه داخلكم.
