بعد سبعة عشر عامًا من تقديم برنامجه الثقافي “مسا النور” على شاشة تلفزيون لبنان، قرر عبد الغني طليس فجأة مغادرة المحطة، مستقيلًا عبر بيان طويل أقرب إلى عرض مسرحي متعدد الفصول، يفيض بقليل من الشعر وكثير من العتب، مع جرعة زائدة من السخرية، تدفع القارئ للتساؤل: هل هي استقالة أم عرض كوميدي؟
طليس وجّه رسالته إلى رئيسة مجلس إدارة المحطة، الدكتورة أليسار النداف، بعد أن تبلّغ عبر ما وصفه بـ”الحمام الزاجل الصادق للنقل”، أن هناك من يستغرب استمراره في المحطة الرسمية، كونه يكتب مقالات صحفية يُفترض أنها تتعارض مع السياسة الجديدة. رغم أنه، بحسب قوله، لم يُبدِ أي رأي سياسي خلال تقديم برنامجه الثقافي، وكأنه يلمّح إلى استهداف شخصي أو انتقام من جهة ينتمي إليها.
ويشير طليس إلى أن “الاعتراضات” جاءت من “حق الله”، وهو الذي لم يتقاضَ من الدولة سوى راتب ضئيل طوال سبعة عشر عامًا، دون أي تعديل. ويروي أنه كتب قصيدة “ظريفة” ألقاها أمام وزير الإعلام بول مرقص، على أمل أن تهتز مشاعره أو على الأقل أرقام راتبه، لكن كل ما ناله كان هزّة رأس مستنكرة… ثم صمتٌ تام.
خلف سخرية طليس، برزت ازدواجية لافتة: هو المنتفض على “ضيق صدور” القيّمين الجدد على تلفزيون لبنان، والمُدافع في الوقت نفسه عن حرية الرأي. ربط الاستياء منه بما كتبه عقب تغيير اسم جادة حافظ الأسد إلى جادة زياد الرحباني، معتبرًا حينها أن القرار خطأ سياسي فادح. وفي مقاله المعنون “رُمّانة جادة الأسد أم قلوب ملآنة… لو سألتم زياد وورثته، فبماذا يجيبون؟”، سرد صفحات من “التاريخ الشخصي والفني” الذي جمع الرحابنة بالأسد الأب، وكأنّ الحرية عنده تقف عند أبواب حافظ الأسد.
ذكّر طليس اللبنانيين بأن الأسد الأب تكفّل بعلاج عاصي الرحباني عام 1972، وأن فيروز والأخوين قدّموا أروع حفلاتهم في معرض دمشق تحت رعايته المباشرة، في محاولة لتقديم درس في “الإنسانية ضمن النظام السياسي”. بل ذهب أبعد من ذلك، معتبرًا أن محو اسم الأسد لصالح زياد “يسيء” إلى هذا الإرث، مختصرًا تاريخ رجل قتل وندّد بشعبه وباللبنانيين، بصديق الفنانين و”المُحسن” الذي أعانهم يوم الضيق.
استقالة طليس، إذًا، ليست مجرد انسحاب من برنامج ثقافي، بل وثيقة سياسية كاشفة: كيف يمكن للثقافة أن تُختطف لتجميل القبح، وأن تُسخّر لتلميع طاغية دموي. وبين الحمام الزاجل وجادة الأسد، يبقى الأمل بالمجلس الجديد أن يجعل من الثقافة رسالة هادفة ونقيّة.