ودّعت بلدة كفركلا الجنوبية، اثنين من أبنائها، هما حسن علي عطوي، وزوجته زينب رسلان، والدَيّ ثلاثة أطفال، كانا في طريقهما لاصطحاب أطفالهما من المدرسة، عندما باغتتهما طائرة استطلاع إسرائيلية (درون) وأردتهما قتيلين.
ثلاثة أطفال كان من المفترض أن يكونوا اليوم على مقاعد الدراسة، تقدّموا بدلًا من ذلك موكب جنازة والديهم، غير مدركين أن هذا اليوم سيقسّم حياتهم إلى ما “قبل” وما “بعد”.
من أشد التجارب التي قد يمر بها الإنسان هي فقدان الطفل لأحد والديه أو كليهما، فهو لا يخسر مجرد شخص، بل يخسر عالمه الصغير، مصدر الأمان والحنان والتوجيه. في لحظة واحدة، ينكسر توازنه الداخلي، ويجد نفسه في مواجهة واقع يفوق قدرته على الفهم والاحتمال. كل شيء من حوله قد يتغيّر: الأصوات، الوجوه، الروتين اليومي، وحتى معنى الحياة.
وغالبًا ما يعجز الطفل عن التعبير عن حزنه بالكلمات، فينعكس الألم في صمته، أو في سلوكيات مضطربة، أو في خوف متكرر من الفقدان من جديد. إنها صدمة لا تلتئم بسهولة، تترك جرحًا في الذاكرة والقلب، وقد ترافقه لسنوات طويلة ما لم يجد من يحتضن ألمه ويُعيد إليه الشعور بالأمان والانتماء.
لقد آن الأوان، بعد أن حصدت صورهم “الرايت” و”الريتش”، أن تتوقف النزاعات الحادة التي تتجدّد على مواقع التواصل الاجت ماعي، في كل مرة تسقط فيها ضحيّة، بين “المزايدين والشامتين”، والتركيز بدلاً من ذلك، على كيفية مداواة جراحهم، ومعرفة من سيتولى مسؤولية رعايتهم نفسيًا واحتضانهم قانونيًا، وكيف سيتم تأمين حياة كريمة ومستقرة لهم.
ليس المطلوب كما في السويد، أن يتم توفير مرشد نفسي يرافق الطفل حتى سن البلوغ، أو في فرنسا، أن تتدخل مؤسسات متخصصة لحمايته ودعمه، أو الولايات المتحدة أن تُفعّل شبكات لحماية الطفل نفسيًا وجسديًا واجتماعيًا خلال ساعات.
نعرف أن أطفال لبنان، بخلاف كثير من الدول الغربية، قد يكونون محظوظين بدفء العائلة الممتدة من الأجداد إلى العمّات والخالات… لكن هذا لا يبرر أن يُترَكوا لرحمة الظروف، دون متابعة رسمية واضحة ومنظمة.
لدينا وزارات قائمة، مثل الشؤون الاجتماعية، الصحة، والتربية، كل منها يمتلك صلاحيات تخوّله التدخل بفعالية.
فوزارة الشؤون عليها وضع خطة فورية لتقديم الدعم للأطفال اليتامى وتأمين احتضان الأطفال ضمن رقابة قانونية تحفظ حقوقهم وكرامتهم.
ووزارة الصحة تملك مراكز ومشاريع يمكن تفعيلها بالشراكة مع منظمات دولية لتوفير الدعم النفسي الطارئ لهؤلاء الأطفال.
وعلى وزارة التربية، من خلال مدارسها، أن تستعين باختصاصيين في الصحة النفسية لمساعدة هؤلاء الأطفال على تجاوز مأساتهم.
ويبقى الأمل في ألّا يتحوّل أطفال لبنان، كما أطفال غزة، إلى مجرد صور دامية تتناقلها الشاشات، وأرقام في تقارير منظمات دولية، ووسيلة لجلب تعاطف الرأي العام العالمي، قبل أن تُطوى صفحاتهم في ذاكرة عالمٍ متعب لا يتسّع لوجعهم.
فأطفالنا لا يحتاجون إلى العاطفة العابرة، بل إلى أنظمة ترعاهم، إلى مؤسسات تؤمّن مستقبلهم، وإلى مجتمع لا ينساهم… بعد أن تخفت الأضواء.