لطالما ارتبط العنف الأسري بالمرأة كضحية، والرجل كجَلاد، وهي صورة رسّخها الخطاب الإعلامي والاجتماعي على مدى عقود، حتى بات من الصعب تصوّر عكسها. غير أن الواقع في عدد كبير من المجتمعات العربية يكشف وجهًا آخر أقل تداولًا: رجل يتعرّض للعنف داخل أسرته… بصمت!
هذا الصمت لا يعني غياب الألم، إنما ثقل الوصمة الاجتماعية التي “تُحرِّم وتجرٍّم” الاعتراف بالهشاشة لدى الرجل. ففي مجتمعات تُقاس فيها الرجولة بالقوة والسيطرة، يصبح الرجل المعنَّف كائنًا غير مرئي، محاصرًا بالخجل والخوف من السخرية وفقدان الهيبة.
عنف لا يُرى
والعنف الأسري ضد الرجال لايقتصر على الاعتداء الجسدي، بل يتعدّاه غالبًا ليصل إلى أشكال خفيّة تشمل الإهانة النفسية المتكرّرة، التحقير، التجاهل، الهجر الجنسي، الابتزاز العاطفي، التهديد بالأبناء… وصولًا إلى الحرمان المادي. وفي هذه الحالات، يفقد المنزل وظيفته كمساحة أمان، ليتحوّل إلى بيئة ضاغطة يُمارَس فيها العنف بصمت، وتُكبَت فيها الشكوى قبل أن تقال.
وما يفاقم هذا الواقع أن كثيرًا من الرجال لا يملكون حتى اللغة للتعبير عمّا يتعرضون له، لأن المجتمع -الذي يرى فيهم فاعلًا وليس مفعولًا- لم يمنحهم حق الاعتراف بأنهم قد يكونون ضحايا.
الأسباب والتحوّلات الاجتماعية
يشير باحثون اجتماعيون في العالم العربي إلى أن التحوّلات الاقتصادية والثقافية لعبت دورًا في إعادة تشكيل العلاقات داخل الأسرة، فاستقلالية المرأة ماديًا وتغيّر أدوار الإعالة إضافة إلى الضغوط المعيشية، وغياب التواصل السليم بين الزوجين، كلها عوامل قد تولّد توترات تتحوّل في بعض البيوت إلى عنف متبادل، أو إلى عنف تمارسه المرأة في سياق صراع على السلطة داخل الأسرة.
إلا أن الإشكالية لا تكمن في هذه التحوّلات بحد ذاتها، بل في عجز المجتمع عن إدارتها بوعي، وفي ربط العنف بجنس دون آخر.
أسباب نفسية:
يشير الباحثون إلى أن بعض حالات العنف تنبع من اضطرابات نفسية عند المرأة، أو تراكمات مرتبطة ببيئات عنيفة عاشتها، أو شعورها بالنقص، إضافة إلى ضغوطات اقتصادية ومهنية.
خوف الرجال من وصمة العار:
في معظم الدول العربية، نادرًا ما يُبلّغ الرجال عن تعرّضهم للعنف، فالخوف من التشكيك في رجولتهم، أو من فقدان الاحترام الاجتماعي، أو حتى من السخرية العلنية، يدفعهم إلى الصمت. وهكذا يتحوّل الضحية إلى متّهم، ويُجبر على التعايش مع الأذى حفاظًا على صورة مفروضة عليه.
وما يزيد الأمر تعقيدًا، هو أن القوانين و آليات الدعم سُنّت انطلاقًا من صورة نمطية واحدة للضحية، ما يترك الرجال خارج مظلة الحماية النفسية والقانونية.
أرقام خجولة… وواقع أوسع
تعاني معظم الدول العربية نقصًا حادًا في البيانات المتعلّقة بالعنف الأسري ضد الرجال. غير أن مؤشرات غير رسمية ودراسات اجتماعية متفرقة بيّنت أن الظاهرة موجودة، وإن بقيت بعيدة عن المجهر. ويجمع الباحثون على أن الأرقام المُعلنة لا تعكس الحجم الحقيقي للمشكلة، نتيجة ثقافة الإنكار والصمت.
الحلول:
يؤكد المختصون أن المواجهة تبدأ بـ:
٠كسر القوالب النمطية للرجولة
٠إتاحة مساحات آمنة للرجال للتعبير عن معاناتهم
٠تطوير مراكز إرشاد أسري شاملة
٠ سنّ قوانين تحمي جميع الضحايا دون تمييز
بالطبع، إن الحديث عن الرجل العربي المعنَّف لا يعني إنكار معاناة النساء، بل يهدف إلى توسيع مفهوم العدالة داخل الأسرة، فالعنف، أيًا كان مصدره، يبقى عنفًا، وضحاياه يستحقون الحماية والدعم بغضّ النظر عن جنسهم. والرجل المعنَّف ليس استثناءً، بل جزء من واقع مسكوت عنه، والسكوت عنه لا يحمي الأسرة بل يُعيد إنتاج العنف داخلها، والاعتراف بهذه الظاهرة لا يُضعف الرجولة، بل يعيد تعريفها على أساس إنساني أكثر عدلًا، حيث لا يُقاس الإنسان بقدرته على التحمّل، بل بحقه في الأمان والكرامة.
