ي عاني كثير من الأشخاص من شعور دائم بالذنب، من دون أن يعرفوا سببه الحقيقي. وعلى الرغم من أن حياتهم قد تبدو طبيعية، إلا أنهم يعيشون في دوامة من الفشل العاطفي أو المهني، ويشعرون بأنهم مخطئون دائمًا، أو يحمّلون الآخرين مسؤولية مشاعرهم. فما هو مصدر هذا الألم النفسي المتكرّر؟
تشير الأبحاث الحديثة في علم النفس وعلوم الأعصاب إلى أن جذور هذا الإحساس العميق بالذنب غالبًا ما تعود إلى تجارب الطفولة المبكرة، بين سن 0 و10 سنوات. ففي هذه المرحلة، لا يكون الدماغ، وخاصةً القشرة الجبهية المسؤولة عن تنظيم المشاعر، قد اكتمل نموه. ولهذا، يتلقى الطفل التجارب السلبية بشكل مباشر، ويستوعبها بطريقة خاطئة، حيث يظن أنه المسؤول عنها.
المعاناة في مرحلة الطفولة
المعاناة في الطفولة لا تقتصر على العنف الجسدي أو الجنسي كما هو شائع، بل تشمل أيضًا الإهمال العاطفي، وغياب الدعم النفسي، والكلمات الجارحة المتكرّرة، وحتى عدم تلقي الحنان والرعاية الكافية. فالطفل الذي لا يجد من يواسيه أو يطمئنه، يتعلّم مع الوقت أن عليه كبت مشاعره، وأن ما يتعرّض له من ألم هو بسبب تقصير منه. وتبقى هذه القناعة دفينة في اللاوعي حتى البلوغ، لتظهر على شكل جلد ذات مستم ر.
من المدهش أن الكثير من المرضى الذين يراجعون العيادات النفسية يؤكدون أن طفولتهم كانت “سعيدة”، ولكن مع التعمّق في الحديث، تظهر مواقف صادمة تم تجاهلها أو تبريرها لسنوات. ويُعد هذا الإنكار أو التهوين من الماضي من أهم أسباب بقاء الجرح النفسي مفتوحًا.
يؤدي هذا الجرح إلى مشكلات عديدة في الحياة البالغة، منها القلق، الاكتئاب، اضطرابات النوم، الإدمان، وفشل العلاقات… وتشير الملاحظات الإكلينيكية إلى أن النساء أكثر عرضة للشعور بالذنب، نتيجة التنشئة الاجتماعية التي تشجعهن على التحمّل والصمت، في حين يُسمح للرجال بالتعبير عن غضبهم.
العلاج
إن علاج الشعور بالذنب المزمن، هو نهج تكاملي يجمع بين الكتابة، واستعادة الذكريات، وتمارين الاستبطان الجسدي (الانتباه للإحساس الجسدي والمشاعر المرتبطة به). تبدأ العملية بكتابة يوميات المشاعر السلبية، ثم تدوين أحداث الطفولة المؤلمة. بعد ذلك، تتم ممارسة تمارين تنفس وتأملات مرتبطة بهذه الذكريات، مما يسمح للدماغ بإعادة معالجة الحدث من زاوية الشخص البالغ، وليس الطفل المصاب.
من الملاحظ، أن هذه التقنية تشبه تقنيات علاج الصدمات مثل العلاج بإزالة التحسّس وإعادة المعالجة عبر حركة العينين، والتي تُستخدم لعلاج اضطرابات ما بعد الصدمة. إذ يتم تحفيز المناطق المسؤولة عن التفكير المنطقي في الدماغ لإعادة تفسير الذكريات المؤلمة.
“الصدمة المعقّدة”
على الرغم من أن ما يسمى بـ”الصدمة المعقدة” لم يتم تصنيفه رسميًا ضمن الدلائل الطبية النفسية، إلا أن النتائج السريرية تؤكد فاعلية هذا النوع من العلاج لدى العديد من المرضى.
ويبقى أنّ التحرّر من الشعور المزمن بالذنب يبدأ من الاعتراف بآلام الطفولة، وإعادة قراءتها بعيون الشخص الناضج. إنها رحلة شفاء حقيقية، يستعيد فيها المرء قدرته على الشعور، والتمييز، واتخاذ القرارات من دون خوف أو لوم أو وجل.