منذ فجر التاريخ، شكّل الخوف جزءًا أساسيًا من بقاء الإنسان، فهو الإحساس الذي أنقذه من الحيوانات المفترسة والكوارث الطبيعية. لكن المدهش أن ما كان سببًا في النجاة، أصبح اليوم مصدرًا للمتعة! فالبشر يدفعون المال ليعيشوا لحظات من الرعب في الأفلام وبيوت الأشباح وألعاب الفيديو. فكيف يمكن أن نحب شيئًا يُفترض أنه يثير فينا الهلع؟
تشير دراسات حديثة في علم النفس التطوري إلى أن حبّ الخوف جزء من غريزة الإنسان القديمة. فأسلافنا لم يكتفوا بالهرب من الأخطار، بل راقبوها ليتعلموا منها. حتى تشارلز داروين لاحظ ذلك حين وصف سلوك قرودٍ تخاف الأفاعي، لكنها تعود دائمًا لمشاهدتها. هذا الفضول الغريزي – أو كما يسميه العلماء “تفقد المفترس” – هو تدريب ذكي على فهم الخطر من دون الوقوع فيه.
هذا السلوك ما زال حاضرًا فينا، وإن تغيّر شكله. فبدل مواجهة النمور أو الأفاعي، نواجه اليوم مخاوفنا في القصص والأساطير وأفلام الرعب. الذئب في حكاية “ليلى والذئب”، ومصاص الدماء في الأفلام الحديثة، جميعها تجسيد آمن لمخاوفنا القديمة. نحن نتعلّم منها كيف نواجه المجهول من دون أن نؤذى.
حتى في الواقع الحديث، للخوف فوائد لا نتوقعها. أثناء جائحة كورونا مثلًا، تبيّن أن من شاهدوا سابقًا أفلامًا مثل Contagion كانوا أكثر هدوءًا في التعامل مع الأزمة، لأنهم “تمرّنوا ” ذهنيًا على سيناريو مشابه.
أما الأطفال فيتعلمون من خلال اللعب كيف يتحكمون بانفعالاتهم. حين يركض الأب خلف طفله مقلدًا الوحش، يضحك الصغير رغم خوفه، فيتدرّب على ضبط نفسه. لكن مع تراجع الألعاب الحرة في السنوات الأخيرة، صار الأطفال أقل قدرة على مواجهة المواقف المجهدة. لذلك ظهرت مبادرات مثل “LetGrow” لتشجيع الصغار على خوض المغامرات الآمنة وتنمية شجاعتهم.
وفي عالم التكنولوجيا، ظهرت ألعاب فيديو علاجية تستخدم الخوف كوسيلة للتعافي النفسي. في هولندا مثلًا، طُوّرَت لعبة MindLight التي تعتمد على “الارتجاع البيولوجي”: كلما ازداد خوف الطفل خفّ ضوء اللعبة، مما يدفعه إلى الهدوء ليستعيد السيطرة. وقد أثبتت التجارب أن نتائجها تشبه فعالية العلاج السلوكي التقليدي.
حتى الكبار يجدون في الخوف “المتعمّد” نوعًا من التطهير النفسي. ففي تجربة داخل “بيت الرعب ديستوبيا” بالدنمارك، قال المشاركون إنهم بعد 45 دقيقة من المطاردة شعروا بأنهم أقوى وأكثر وعيًا بقدراتهم. فالقليل من الرعب – في بيئة آمنة – يساعد على تقوية المرونة النفسية ومهارات التعامل مع التوتر.
ولا يمكن تجاهل الجانب الاجتماعي أيضًا؛ فالخوف المشترك يقرّب الناس من بعضهم. حين يصرخ الجميع في مشهد مرعب أو يضحكون بعد لحظة توتر، تنشأ بينهم رابطة عاطفية قوية. لهذا نشعر أن مشاهدة فيلم رعب مع الأصدقاء متعة لا تُقارن بمشاهدته وحدنا.
في النهاية، يبدو أن الخوف ليس عدوًّا للإنسان كما نعتقد، بل معلمٌ قديم يدرّبنا على البقاء. لذلك حين تشاهد فيلم رعب أو تروي قصة مخيفة في الهالوين، تذكّر أنك لا تبحث فقط عن الإثارة، بل تُعيد تفعيل غريزةٍ ساعدت البشرية على النجاة منذ آلاف السنين.
