"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث
تابعونافلاش نيوز

تداعيات سيطرة "الغرباء" على لبنان: قصة انحدار عيتا الفخار ١٩٦٨ ـ ٢٠٠٥ نموذجًا (2)

ابراهيم ناصر
الاثنين، 6 يناير 2025

تداعيات سيطرة "الغرباء" على لبنان: قصة انحدار عيتا الفخار ١٩٦٨ ـ ٢٠٠٥ نموذجًا (2)

تقع بلدة عيتا الفخار شرقي سهل البقاع على اقصى الطرف الجنوبي لجبل الشيخ، وهو جزء من سلسلة جبال لبنان الشرقية التي تشكل قممها الخط الحدودي بين لبنان وسوريا.

تتوزّع منازل هذه البلدة القديمة ضمن منخفض يعلو حوالي ١٢٥٠ مترًا عن سطح البحروتحيطها الجبال من جهاتها الاربع. نطاقها الاداري يحد بلدة “جديدة يابوس”، من جهة الشرق وتبلغ مساحته ٢٨٠٠ هكتار، أمّا من جهة الغرب، فعلى طول منخفض ضيّق بين مرتفعين جبليين ترتسم الطريق الوحيد الذي يربط عيتا الفخّار بسائر المناطق اللبنانية، الأمر الذي يوحي بعزلتها النسبيّة عن محيطها.

تبعد هذه البلدة مسافة خط نار ٣٧ كيلومترًا عن مدينة دمشق شرقًا والمسافة نفسها عن الحدود مع اسرائيل جنوبًا.

حتى منتصف ستينيات القرن العشرين كانت عيتا الفخار من أكبر البلدات المأهولة في المنطقة والأكثر ازدهارًا حيث كان المسيحيّون من الروم الارثوذوكس يشكّلون أكثريّة سكانها وأساس ازدهارها وحيويتها، ويملكون أغلبية ثرواتها وخاصة العقارية. صناعة الفخار التي أعطت البلدة اسمها كانت مزدهرة، على يد عدد كبير من الحرفيّين المسيحييّن. كذلك الحال بالنسبة للعديد من المهن التي كانت تُمارس فيها: طبيب صحة، طبيب اسنان، طبيب بيطري، خياط، حلّاق، سائق تاكسي، إسكافي، بقّال، صاحب مقهى، تاجر نسيج، منتج عرق ونبيذ. كانت ساحة البلدة تشكل مع محيطها مركزًا خدماتيًّا وتجاريًّا للعديد من القرى المحيطة.

اتّفاق القاهرة نقل عيتا الفخّار من ممر “سرّي” ل”فدائيّي فتح” إلى مستقر

في تلك الفترة لم يكن المسلمون يشكلون أكثر من عشرين بالمئة من مجمل سكان البلدة، ولا يملكون أكثر من ثلاثة بالمئة من الأملاك العقاريّة الخاصة. كانوا يعيشون حياة الفلاحين البسيطة وترتزق أغلبيّتهم من زراعة أراضي كبار المالكين.

بيوتهم متواضعة مبنيّة من طابق واحد من الطوب تتلاصق بعضها ببعض، وهي تستخدم لإيواء أصحابها وبعض رؤوس الماشية: بقرة او اثنتان، عدد من الاغنام والدجاج وكذلك الحمار الذي لم يكن يمكن الاستغناء عنه كوسيلة وحيدة للنقل والعناية بالحقول والكروم. في ما عدا الأراضي الصخرية أو الشديدة الانحدار كان معظم النطاق العقاري للبلدة يُزرع بنسب شبه متساوية حبوبًا وعنبًا. كانت الزراعة تشكّل النشاط الاقتصادي المركزي للبلدة ومورد الرزق الأساسي لسكانها، وكانت كل جوانب الحياة اليومية للسكّان تنتظم حول العناية بالأرض.

ياسر عرفات

“الفدائيّون” وعيتا الفخّار

بدأ الفدائيون بالظهور في عيتا الفخّار، أواخر ستينيّات القرن الماضي، وكان عددهم، آنذاك، قليلًا، إذ لم تكن هذه البلدة تشكل بالنسبة لهم سوى نقطة عبور او استراحة، خلال عودتهم أو قدومهم من الحدود السورية قبل أو بعد عملية “كوماندوس” داخل اسرائيل. غالبًا ما كان هؤلاء “الفدائيّون” يظهرون بتردد، وتبدو عليهم علامات الريبة والارهاق. وكان السكان المتعاطفون يقدّمون لهم الطعام والمأوى، ليعودوا فجرًا الى مخابئهم في الجبال ويواصلوا مسيرتهم.

لاحقًا، وكنتيجة عمليّة لاتفاق القاهرة وبفعل التعاطف الشعبي معهم، بدأ فدائيّو منظمة “فتح” باتخاذ مراكز ثابتة لهم ضمن نطاق البلدة، واستخدموها في التدريب واعداد العمليات وجعلوها قواعد وسطى بين مراكزهم في سوريا ومسرح عملياتهم العسكرية ضد اسرائيل عند سفوح جبل الشيخ، على الجانب الجنوبي الشرقي للبنان، إلّا أنّهم، وعلى الرغم من ذلك، أبقوا الاحتكاك بالسكّان المحليّين ضمن حدوده الدنيا، وحافظ وجودهم على درجة معيّنة من السرية.

“حروب لبنان” التي اندلعت في العام 1975 أراحت “الفدائيّين” في عيتا الفخّار التي سكنها ياسر عرفات لأشهر عدّة

لم يتأثر التوازن الاجتماعي والاقتصادي في عيتا الفخّار، نتيجة هذا الوجود، على الرغم من بعض المناوشات الخفيفة التي كانت تقع من وقت إلى آخر بينهم وبين نقطة مراقبة للجيش اللبناني تبعد بضعة الكيلومترات. ولكن، بعد فترة وجيزة ارتأت قيادة “فتح” أنّ الموقع الجغرافي لعيتا الفخّار ملائمًا لتكثيف وجودها فيها، ولتكون مركزًا قياديًّا لأحد فصائلها. فالبلدة محاطة بالجبال من جميع أطرافها وتقع على بعد مئات الامتار فقط من الحدود السورية، ولذلك فهي تُعتبر هدفًا صعبًا لسلاح الجو الاسرائيلي وأكثر صعوبة لسلاح المدفعية.

وقد ساعد في ذلك ايضًا اندلاع “حروب لبنان” في العام ١٩٧٥ بحيث خرجت المنطقة سريعًا عن سيطرة الجيش اللبناني لتخضع لميليشيات الأحزاب اليساريّة التي كانت تهيمن عليها، في هذه البقعة الجغرافية، وبشكل مطلق منظمة فتح الفلسطينية.

بدأت مراكز التدريب واعداد العمليات تتكاثر حول البلدة كما أنّ كثيرًا من منازلها تحوّل الى مكاتب لكوادر “فتح”.

هاني فحص

إقامة عرفات

وخلال العام ١٩٧٥ أقام ياسر عرفات، مؤسّس ” فتح” والزعيم التاريخي الفلسطيني، في البلدة حيث وضع اهالي البلدة منزلين تحت تصرفه، لعدة أشهر. اقامة ابو عمار كانت شبه سرية. لم يكن له أيّ ظهور علني في البلدة وكانت تنقلاته ليليّة، في معظم الأحيان، على متن سيارات بسيطة مموّهة. ومن هذين المنزلين المتواضعين أدار عرفات ما سميّ بعمليات التحرش العسكرية على الحدود اللبنانية الاسرائيلية كما عمليات الكوماندوس في الداخل الاسرائيلي.

عرفات يستعرض وفدًا مسيحيًّا أمام رجل دين شيعي شكا إليه “الطائفيّة” وقال له: اختبرت إخلاصهم لفلسطين في الأيام الصعبة

وهذه الإدارة الأمنيّة والعسكريّة لم تمنعه من استقبال وفود من أعيان المنطقة والإجتماع بقادة الأحزاب اليسارية. ويقول الشيخ هاني فحص عن احدى زياراته لأبي عمار في تلك الفترة:”(…) كما قلت في مقدمة كلامي، لن أخوض في الشأن السياسي، في إشكالية الحرب في لبنان والدور الفلسطيني، ذلك إنّي ميّال منذ زمان الى النقد المخلص والقاسي لهذه الحرب وكل الأطراف المشاركة فيها، وقد عارضت علنًا كلام بعض القيادات الفلسطينية التي حصرت المسألة نقديًا في بعض الأخطاء… ولكن لا بد من أن أنصف ياسر عرفات بعض الشيء، فبحدود ما عرفته وجربته بالشراكة معه أثناء الحرب(…). لقد زرته في بداية الحرب، في عيتا الفخار، وكانت قد أخذتني بعض لغة الشارع السياسي اللبناني
الملتبس بالتقدمية والطائفية، وعلى غير عادتي ولغتي قلت في الحديث معه كلاماً طائفياً فسكت وأردت أن أودّعه فاستبقاني ولم أدرِ لماذا، حتى جاء وفد من أهالي المنطقة فسلّم عليهم وسمّى بعضهم بأسمائهم، وهمس في أذني قائلًا: يا شيخنا هؤلاء جميعهم مسيحيون وهم ممن اختبرت إخلاصهم لفلسطين في الأيام الصعبة. ولم يزد شيئاً ولكنّني فهمت كثيرًا، وعدت الى منزلي، وعلى طول الطريق كنت مشغولاً بنزع أشواك الطائفية من جسدي وقلبي وعقلي”. (هاني فحص 8 ت2 2004 جريدة المستقبل).

يتبع

إقرأ أيضًا:تداعيات سيطرة “الغرباء” على لبنان: قصة انحدار عيتا الفخار ١٩٦٨ ـ ٢٠٠٥ نموذجًا (1)

المقال السابق
ماذا يقول مدير مكتب بشار الأسد عن خيبات الأسد البوتينية في الأيام الأخيرة وعن "قوة" أسماء الأسد؟

ابراهيم ناصر

باحث سياسي واجتماعي

مقالات ذات صلة

تحليل عبري / هناك شك في أن تحقق إسرائيل أهدافها في لبنان من دون هجوم واسع على بنى حزب الله التحتية في عموم البلد

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية