تداعيات سيطرة "الغرباء" على لبنان: انحدار عيتا الفخار ١٩٦٨ ـ ٢٠٠٥ نموذجًا _الحلقة الأخيرة

تكثفت الحركة الدبلوماسية على المستوى الدولي وأسفرت عن وقف لاطلاق النار يدخل حيز التنفيذ ظهر الحادي عشر من حزيران ١٩٨٢. قبل دخول وقف اطلاق النار حيّز التنفيذ بساعات معدودة، وفي ظل الانكفاء السوري السريع، حاول الجيش الاسرائيلي الاستفادة من تفوّقه الكاسح للحصول على أقصى المكتسبات على ارض المعركة باحتلاله نقطة بيادر العدس الاستراتيجية على خط المصنع راشيا الوادي. هذه النقطة التي ينطلق منها شرقًا الطريق المؤدي الى عيتا الفخار ومنها الى بلدة جديدة يابوس السورية الحدودية.

ومساء العاشر من حزيران تدفع اسرئيل بقوة انزال مدرع الى سفوح بلدة السلطان يعقوب نزولا مسافة مئات الامتار الى نقطة بيادر العدس. لكن هذه القوة ما تلبث ان تجد نفسها محاصرة بنيران القوات السورية المنسحبة شمالا بمؤازرة بعض المجموعات الفلسطينية التي اعادت تمركزها في المحيط. معركة طاحنة ودامية تستمر طوال الليل حتى صباح اليوم التالي ينجح فيها الاسرائيليون بصعوبة بالغة في اعادة سحب قواتهم المحاصرة متكبدين ثلاثين قتيلا بقي منهم خمسة في ساحة المعركة. في اليوم نفسه تقوم مجموعة من المسلحين الفلسطينيين باستعراض جثث الاسرائيليين على متن جيب مكشوف في شوارع البلدة لكن سرعان ما تختفي هذه الجثث لتصبح خلال سنوات طويلة مادة للدبلوماسية السرية والعمل الاستخباراتي المعقد. فشل الانزال ولم تقع عيتا تحت الاحتلال الاسرائيلي لكن خط وقف اطلاق النار لا يبعد سوى مئات الامتار عن مركز البلدة.

لم تقع عيتا تحت الاحتلال الاسرائيلي لكن خط وقف اطلاق النار لا يبعد سوى مئات الامتار عن مركز البلدة

على عجل يبدأ الجيش السوري برفع كل أثار خسائره المادية والبشرية من مسرح المعركة ويشرع بتنفيذ ورشة ضخمة من التحصينات الدفاعية في مواجهة خطوط التمركز الجديدة للجيش الاسرائيلي الذي لم يعد بعيدا عن دمشق. بمساعدة خبراء سوفيات مزودين بالخرائط تقوم جرافات ضخمة ببناء تحصينات ترابية ومخابئ للدبابات وشق عدد كبير من الطرق الترابية للتواصل بين مختلف المواقع ولوصلها مع خطوط الامداد وصولا حتى الداخل السوري. طالت هذه الورشة كل النطاق العقاري لعيتا الفخار التي تحولت الى منطقة عسكرية مقفلة تنتشر فيها الكتائب المدرعة المجهزة بمعدات سوفياتية جديدة وخاصة دبابات ت٧٢ الحديثة. هذه المرة منع السكان نهائيا من الوصول الى اراضيهم وهجر تبعا لذلك ما كان قد تبقى من البساتين والحقول.

ثبت الجيش السوري نقطة عسكرية على مدخل البلدة للتحقق من الوافدين اليها ولمراقبة مرور البضائع. في قلب البلدة انشأت المخابرات السورية سيئة الصيت وحدة لها. تحول الجو العام المقبول نسبيا زمن فتح الى مناخ من القهر والاذلال والشبهة. سكان البلدة باتوا يعدون بالعشرات. وسوف ينقص عددهم اكثر بعد عدة اشهر نتيجة موجة هجرة جديدة الى الخارج طالت هذه المرة العائلات المسيحية والمسلمة على حد سواء. لم يطل الامر بالجيش الاسرائيلي وينسحب جنوبا نحو عشرين كيلومتر . خفت وطأة الجيش السوري لكنه حافظ على العديد من المواقع في اطراف البلدة.

تحوّلت عيتا الفخار الى منطقة عسكرية سوريّة مقفلة تنتشر فيها الكتائب المدرعة المجهزة بمعدات سوفياتية جديدة

ابو عمار الذي خرج من لبنان عبر بيروت يحاول العودة اليه عبر دمشق. رجاله عادوا الى مراكزهم في عيتا ولكن ذلك لن يدوم طويلا. حافظ الاسد على خلاف سياسي حاد مع الزعيم الفلسطيني لدرجة ان اعلن للاخير صيف ١٩٨٣ انه شخص غير مرغوب فيه في سوريا. وبهدف المزيد من اضعافه والسيطرة على الملف الفلسطيني اطلق النظام السوري حركة تمرد فلسطيني داخلي على ابو عمار بقيادة عقيد من فتح يلقب بابو موسى ومعاونة بعض الضباط تحت اسم فتح الانتفاضة. فور الاعلان عن التمرد في دمشق توجه ابو موسى من سوريا ووصل الى عيتا الفخار وطرد منها رجال عرفات ومن هناك تابع ملاحقة مراكز فتح شمالا بمؤازرة القوات السورية. على عجل يصل ياسر عرفات الى لبنان عبر مرفأ طرابلس ومن هناك الى البقاع في محاولة لوئد الانتفاضة. تحت الضغط العسكري يتراجع ابو عمار شمالا ليجد نفسه محاصرا في طرابلس حيث يصمد بضعة اسابيع ليرغم مرة ثانية على العودة الى منفاه التونسي عبر البحر وبحماية دولية. حقق النظام السوري مبتغاه لكن المنتفضين ما لبثوا ان تلاشوا. في عيتا اقتصر تميثلهم على عجوزين بهيئة عسكريين.

فور الاعلان عن التمرد في دمشق توجه ابو موسى من سوريا ووصل الى عيتا الفخار وطرد منها رجال عرفات

خليّة وادي الزيتة ” الثوريّة”

خلة الزيتة واد صغير يبعد عشرات الامتار عن البلدة من جهة الحدود السورية استخدمته فتح طوال فترة تواجدها كقاعدة عسكرية للتدريب وتخزين اسلحة. منذ ١٩٨٣ يستخدم قاعدة خلة الزيتة رجال ينتمون لتنطيم فلسطيني غير اعتيادي. عرف اهالي عيتا واختبروا رجال فتح وفلسطينيين تابعين لتنظيمات اخرى. القادمون الجدد لا يشبهون احد ممن سبقهم. غالبيتهم ما دون الاربعين من العمر، متكتمين يظهر عليهم الانشغال الدائم ذلك انهم لا ينقطعون عن الذهاب والاياب عبر البلدة في سياراتهم العسكرية الفارهة. يبدو عليهم الانضباط الشديد مجهزون باسلحة خفيفة غالبا ما تكون مخفية وعلى عكس من سبقوهم يتجنبون الاحتكاك بالاهالي. وما هو مدهش ومثير للريبة تعاليهم على افراد الجيش السوري الذي يهيمن بلا منازع على المنطقة وكذلك على عناصر المخابرات المخيفة. يمرون بسياراتهم على حواجزهم دون توقف. امر لم يسبق حدوثه. من خلال بعض الاحاديث النادرة مع بعض الاهالي يبدو انهم على مستوى ثقافي جيد ويلتزمون بايديولوجية ماركسية شديدة التطرف. اما الميزة الاكثر بروزا فهي شدة كراهيتهم لياسر عرفات واركان قيادتة الذين يصفونهم بالخونة والعملاء للصهاينة. هؤلاء الرجال ينتمون للمنظمة السرية والمرعبة « المجلس الثوري » التي اسسها ويديرها منذ ١٩٧٤ الفلسطيني صبري البنا الملقب بابو نضال وهو شخصية غامضة ودموية على رصيده عشرات الاغتيالات وعمليات التخريب وتفجير الطائرات في اروربا والشرق الاوسط وآسيا.

صبري البنا

كان البنا قياديا شابا في فتح عندما بدأ يوجه النقد العلني لقيادته اثر ما حدث للمنظمات الفلسطينية في الاردن في ايلول ١٩٧٠. في بغداد حيث يمثل م ت ف ينجح ابو نضال في نسج شبكة علاقات قوية مع رجال نظام البعث وقيادات الاستخبارات ويرتبط بعلاقة قوية مع نجم العراق الصاعد صدام حسين. متكئًا على علاقاته العراقية يتحدى ابو نضال قيادته التي تقوم بطرده من صفوفها في تموز ١٩٧٤. من ذلك العام وحتى ١٩٨١ وهي السنة التي قرر فيها صدام حسين طرده مع منظمته من العراق كان ابو نضال على رأس منظمة ارهابية، سرية وغنية خلاياها موزعة على عدد كبير من عواصم العالم. على رصيده في هذه الفترة اغتيالات سياسية، اختطاف رهائن وطائرات، عمليات تفجير وتجارة اسلحة والعديد من الاعمال الارهابية لحساب النظام العراقي خاصة ضد النظام السوري وقيادات فتح.

في قاعدة خلة الزيتة يقوم رجال ابو نضال بالتحضير للعمليات الارهابية وتعذيب السجناء واخفاء الرهائن وتصفية المحكومين

مقابل خدماته لصالح النظام السوري ينقل ابو نضال منظمته من العراق الى سوريا التي تتعهد بحمايته. ينفذ ابو نضال سلسلة من الهجمات ضد المصالح الاردنية داخل المملكة وخارجها لمصلحة عرابيه الجدد. في هذه الفترة ينجح ايضا باغتيال العديد من القيادات الفلسطينية في دول اوروبية وشرق اوسطية مع تركيز خاص على القيادات المعتدلة التي لا تعارض حلا سياسيا للمسألة الفلسطينية مع اسرائيل. الا ان ابو نضال ذو الطبيعة الحذرة لا يثق بالنظام السوري. فهو لا يأتي الا نادرا الى سوريا ولبنان ويقود عمليات منظمته من بولندا وهنغاريا حيث يمضي معظم وقته. خلال بحثه عن بديل للنظام السوري يعرض خدمات منظمته على رجل ليبيا القوي معمر القذافي الذي يضع تحت تصرفه موارد لوجستية ومالية ضخمة. للخروج من سوريا يستدعي بنفسه اسباب طرده منها عبر القيام بسلسلة اعمال ارهابية في دول اوروبية وخليجية تضع النظام السوري في موقف حرج مع هذه الدول. قبل الانتقال النهائي الى ليبيا يقوم بخفض عديد منظمته في لبنان التي انتشرت على نطاق واسع في لبنان في الاوساط الفلسطينية بفعل مواردها الضخمة وغياب فتح. لكنه يقوم بهذا التخفيض على الطريقة التي يتقنها حيث يقوم بحملة اعتقالات تطاول مئات الكوادر الذين يخضعون للتعذيب والتصفية الجسدية. خلال اشهر يجري اعدام حوالي نصف كوادر المنظمة.

في قاعدة خلة الزيتة حيث يمنع اهالي البلدة من الوصول الى محيطها يقوم رجال ابو نضال بالتحضير للعمليات الارهابية وتعذيب السجناء واخفاء الرهائن وتصفية المحكومين. عام ١٩٨٧ وقبل اخلاء القاعدة بفترة وجيزة اقدم مسؤوليها على تصفية جميع السجناء وكان عددهم يناهز الخمسين معظمهم من كوادر المنظمة. فور مغادرة عناصر ابو نضال يستقر عناصر من الجيش السوري في القاعدة لتبقى آثار ما حدث فيها طي الكتمان.

وفي ١٢ نيسان ٢٠٠٥ غادر آخر جندي سوري الاراضي اللبنانية تحت الضغط الدولي وانتفاضة الشعب اللبناني اثر اغتيال رفيق الحريري في وسط بيروت في ١٤ شباط من العام نفسه. وهكذا أخلى الجيش السوري ايضا عيتا الفخار تاركا خلفه بلدة في شبه غيبوبة خالية من معظم سكانها.

في العام ٢٠٠٧ حطّ وفد من الادلة الجنائية والمخابرات البريطانية بمواكبة امنية لبنانية في خلة الزيتة للبحث عن رفاة الصحفي البريطاني اليك كوليت الذي اختطفه رجال ابو نضال في بيروت عام ١٩٨٥. عمليات البحث كشفت عن ما يقارب عشرة جثث قبل ان تتمكن من تحديد رفات كوليت.

اللإطلاع على الحلقة السابقة، إنقر/ي هنا