دام الوجود العسكري والأمني الغريب، في عيتا الفخّار، أربعة عقود
إثر الهزيمة الساحقة التي ألحقتها إسرائيل بالجيوش العربية في
حزيران ١٩٦٧ لم يبقَ أمام الفلسطينيين سوى الاتكال على قواهم الذاتية لمواصلة الكفاح المسلح على أمل استعادة وطنهم المسلوب. لقد أسقطت الهزيمة وهم الاعتماد
على اخوانهم العرب لتحقيق هذا الهدف.
وكان الدور الحاسم الذي اكتسبه جمال عبد الناصر، على المستوى العربي، لقيادة الصراع، قد وضع الفلسطينيين، على هامشه. لقد تسلّح الزعيم العربي بشرعية شعبية عربيّة غير محدودة، أوحت بأنّ من هو على رأس أكبر دولة عربية، يمتلك كل ادوات النصر.
إلّا أنّ هزيمة ١٩٦٧ حدّدت حقبة أفول الناصرية ودفعت بالرأي العالم العربي الى اعلاءالقضية الفلسطينية الى المراتب المقدسة كضمادة للجرح العميق الذي تسبّب به الانتصار الساحق للدولة اليهودية الناشئة.
إثر ذاك، اجتاحت الدول العربية موجة عارمة من التعاطف مع الفلسطينيين، فبنت عليها تنظيماتهم فكثّفت ال عمليات المسلحة داخل الاراضي المحتلة، انطلاقا من الاردن ومن جنوب لبنان، في ظل حكومات عربية مربكة ومحرجة.
في الاردن تصاعد نفوذ المنظمات الفلسطينية المسلّحة، بوتيرة متسارعة، الى حد إشاعة الفوضى في البلاد وزعزعة الامني الوطني وصولًا الى تهديد بقاء العرش الهاشمي.
لم يحتمل الملك حسين هذا الوضع طويلًا، فقام بسحق هذه التنظيمات في بحر من الدم، فيما بات يعرف بايلول الاسود، وأخرج من المملكة جميع القيادات الفلسطينية وكوادرها.
وهنا جاء دور لبنان الذي كان يزدهر محتميًا، لفترة طويلة، من تداعيات الصراع مع اسرائيل، ليصبح سريعًا المركز المشتعل لهذا الصراع. وسوف يدفع هذا البلد ثمنًا باهظًا: عقدين من الحروب المدمرة، فقدان السيادة والاستقرار حتى هذا اليوم.

خلال الستينيات من القرن الماضي درج الفدائيون الفلسطينيون على القيام بعمليات مسلّحة ضد اسرئيل عبر الحدود اللبنانية، الا أنّ الجيش اللبناني كان ينجح بتعقبهم، ولوبشكل متفاوت، على الرغم من تعاطف السكان المحليين مع هؤلاء الفدائيين.
تبدّلت الأمور بعد العام ١٩٦٧. فبرعاية الزعيم العربي المنهك جمال عبد الناصر، وقّع ياسرعرفات ممثلًا منظمة التحرير الفلسطينية مع قائد الجيش اللبناني اميل البستاني ماصار يعرف باتفاق القاهرة. هذا الاتفاق الذي اطاح بالسيادة اللبنانية أعطى للمنظمات الفلسطينية الحق بمهاجمة اسرائيل انطلاقًا من الاراضي اللبنانية، كما أعطاها الحق، بتطبيق قوانينها الخاصة داخل مخيمات اللاجئين التي تحولّت الى قواعد عسكرية خلفية لتلك المنظمات.
هيّأ اتفاق القاهرة الأرضية اللازمة للعمل الفلسطيني المسلح في لبنان، لكن نقطة التحوّل جاءت، اثر طرد المنظمات الفلسطينية من الأردن وانتقالها الى لبنان بمساعدة وتشجيع زعيم سوريا الجديد، حافظ الاسد الذي كان قد وصل للتو الى قمة السلطة، بواسطة انقلاب أطاح بجميع منافسيه البعثيين. أعطى الأسد الاولوية لتثبيت سلطته، ولو كان الثمن التهدئة مع اسرائيل: مسألة استعادةالجولان بامكانها الانتظار، كذلك، وبقدر أكبر، تحرير فلسطين.
إلّا أنّ هذه الأولوية لم تحل دون أن يقدّم الأسد الدعم للمقاتلين الفلسطينّيين لمواصلة مضايقة اسرائيل عبر الحدود اللبنانية من دون تحمل التبعات، مستفيدًا من ذلك بالايحاء لشعبه بأنّه ملتزم بمواصلة الصراع المسلح ضد اسرائيل.
وحافظ الاسد، ابن المدرسة البعثية، يؤمن بأنّ لبنان قد سلخ عن سوريا، وأنّ عودته اليها مسألة وقت، لذلك لم يكن يشعر بأيّ رادع يحول دون أن يعمل على اضعاف الدولة اللبنانية والمساهمة في ضرب استقرار هذا البلد وصولًا الى تفتيته لابتلاعه.

في هذا المناخ العام، تحوّلت بلدة عيتا الفخار، في البقاع الغربي، منذ نهاية الستينيات، الى قاعدة خلفية للفدائيين الفلسطينيين، لتصبح ابتداء من العام ١٩٧٥، مركزًا قياديًاعسكريًا لمنظمة “فتح”، وذلك حتى جلاء “منظمة التحرير الفلسطينية” عن لبنان العام١٩٨٢ بنتيجة الغزو الاسرائيلي.
خلال سنوات الخمس التي تلت “الجلاء”، كانت القرية مأوى لقاعدة عسكرية لتنظيم “المجلس الثوري” بقيادة صبري البنا، ابو نضال الذي استدعاه حافظ الاسد للاستفادة منخبراته الواسعة في مجال الارهاب الدولي.
بعد ذلك، أي من ١٩٨٨ حتى ٢٠٠٥ سوف ينحصر الوجود العسكري في البلدة بالجيش السوري فقط.
في المحصلة، فقد دام الوجود العسكري والأمني الغريب، في عيتا الفخّار، ما يقارب الاربعة عقود. وهذه مدّة، كانت كافية لترك أثارها عميقة في مجالاتها العمرانية والطبيعي ة، كما في نسيجها الاجتماعي وتوازنها الديموغرافي وحياتها الاقتصادية.
وعن كل ما حصل والتداعيات، سوف نكتب في الحلقة المقبلة.
يتبع
