براكريتي غوبتا
شهدت قمة «منظمة شنغهاي للتعاون»، التي استضافتها أخيراً مدينة تيانجين الصينية، لعبة «لفت أنظار»، حيث استعرض كل من «مستضيف القمة» الرئيس الصيني شي جينبينغ، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، ورئيس وزراء الهند ناريندرا مودي، أمارات الألفة والمودة والصداقة… ما يوحي بوجود محاولة لإعادة تشكيل الوضع الجيوسياسي العالمي. لقد كانت هناك ابتسامات ومصافحات بين شي وبوتين ومودي، فهم مراقبون منها رغبة في إظهار إمكانية تشكيل جبهة موحدة باعتبار أنها بديل للقيادة الأميركية على رأس النظام العالمي، وهذا رغم ما بين القوى الثلاث من اختلافات جوهرية. وبالفعل، قال الزعماء الثلاث الكلمات المناسبة التي تحمل ما أرادوا إعلانه وإبداءه لشعوبهم في أوطانهم، وللعالم بوجه عام. تضم «منظمة شنغهاي للتعاون»، التي أسست على أيدي ست دول عام 2001، راهناً، عشر دول تتمتع بعضوية كاملة، ودولتين مراقبتين، إلى جانب 14 دولة شريكة في الحوار من آسيا وأوروبا وأفريقيا. وتجمع «المنظمة» دولاً ذات اقتصاديات ناشئة، ودولاً نامية، مثل الصين وروسيا والهند، وتمثل نحو نصف سكان العالم، وربع الاقتصاد العالمي.
قمة تيانجين جاءت على خلفية تغيّرات متصاعدة في النظام العالمي، بينها عودة التنافس بين القوى العظمى، وتشرذم سلاسل الإمداد العالمية، واستخدام الاعتماد الاقتصادي المتبادل على أنه سلاح، وخلقت هذه التغيرات ضرورات جديدة بالنسبة إلى القوى المتوسطة تلزمها بتنويع شراكاتها الاستراتيجية، والحد من الاعتماد على أي مركز قوة واحد.
ديبيكا فوهرا، الدبلوماسية الهندية السابقة، قالت معلقة: «كانت القمة استعراضاً لقيادة عالمية بديلة، في مواجهة الولايات المتحدة، وهيمنة الغرب، وخاصة بعد التعرفات الجمركية التي فرضتها واشنطن أخيراً، والهجمات التنظيمية، واتجاه كل من الهند وروسيا والصين نحو إعادة تأكيد وتوطيد علاقاتها. وفي حين يمثل قادة الدول الثلاث أنظمة سياسية مختلفة، ويحتفظون بعلاقات متنوعة مع القوى الغربية، قد يكون لهذا التطور تداعيات كبيرة على السياسة الخارجية الأميركية».
وأضافت فوهرا أن دور بوتين البارز في القمة يؤكد «التوجه الروسي الاستراتيجي نحو آسيا بعد إقصاء روسيا عن المؤسسات الغربية. كذلك تسلّط اللقاءات الثنائية، التي عقدها بوتين مع كل من مودي وشي، الضوء على رغبة موسكو في استغلال علاقاتها مع دول كبرى آسيوية من أجل الحفاظ على وجودها العالمي، ونجاحها الاقتصادي، رغم استمرار ف رض العقوبات عليها بسبب الصراع مع أوكرانيا».
الهند والصين
من جهة ثانية، يوضح أداء الهند الحذر خلال «القمة» سعي نيودلهي الحذر الهادف إلى التوازن. فللمرة الأولى منذ سبع سنوات، يطأ مودي بقدميه أرضاً صينية، أو يشارك في دبلوماسية تتضمن مخاطر عالية بالأساس مع نظيره الصيني. وجاء اللقاء في وقت تشهد العلاقات الثنائية توترات منذ المواجهات العسكرية عام 2020، ما يعطي زيارة مودي للصين -هي الأولى منذ اندلاع الأزمة- أهمية خاصة.
بل التقى شي بمودي بشكل شخصي، واتفقا على اعتبار كل من الصين والهند شريكين لا خصمين. ونُقل عن شي دعوته كلا البلدين إلى أن «يصبحا دولتي جوار متوافقتين وصديقتين وشريكتين تسهم كل منهما في نجاح الأخرى»، في إشارة إلى التعاون مثل «تنين وفيل يرقصان معاً»، بوصفهما رمزين للصين والهند على التوالي.
في المقابل، استخدم مودي مصطلح «الجنوب العالمي»، مشجعاً على إجراء إصلاحات في مؤسسات عالمية مثل الأمم المتحدة. وأوضح قائلاً: «إن تقييد طموحات الجنوب العالمي داخل إطار عتيق عفّى عليه الزمن ظلماً بيّناً للأجيال المستقبلية». ودعا رئيس الوزراء الهندي الرئيس شي إلى حضور قمة مجموعة «بريكس» التي تستضيفها الهند العام المقبل. وشكر الرئيس شي رئيس الوزراء مودي على تلك الدعوة، وعرض دعم الصين لرئاسة الهند لـ«بريكس».
من جانبها، لاحظت سنا هاشمي، الزميلة في مؤسسة التبادل التايواني الآسيوي، أن مشاركة مودي شخصياً خلال العام الحالي في قمة «منظمة «شنغهاي للتعاون» تبعث بإشارة أوضح عن نية نيودلهي تحسين علاقتها مع بكين، وكذلك مع أطراف إقليمية أخرى على نطاق أوسع. وتابعت: «إن ما يدفع هذا التقارب الواقع الجيوسياسي القاهر، حيث تواجه الدولتان ضغوطاً متصاعدة بسبب حروب التجارة الأميركية المتجددة، وسياسات الاحتواء الاستراتيجية تحت حكم إدارة دونالد ترمب… لقد أوجد التحدي المشترك، المتمثل في التعامل مع «واشنطن الماضية قدماً في سياسة الحماية الجمركية»، أرضية مشتركة بين أكبر دولتين عالمياً من حيث تعداد السكان، رغم النزاعات الحدودية العالقة، والتنافس الاستراتيجي.
العلاقة بين مودي وبوتين
أما فيما يخص العلاقات الهندية–الروسية، فإن لقاء بوتين ومودي في تيانجين حصل بينما تمر علاقات نيودلهي وواشنطن بتوتر كبير، بدأ أساساً نتيجة مواصلة الهند شراء النفط الروسي، إلى جانب المفاوضات المتجمدة بشأن الاتفاق التجاري الثنائي. وحقاً أعلنت كل من نيودلهي وموسكو خلال الشهر الماضي اتفاقهما على الشروط المرجعية الخاصة باتفاق تجارة حرة بين نيودلهي والاتحاد الاقتصادي الأوراسي بقيادة روسيا. وفي المقابل، استهدفت واشنطن مشتريات الهند من النفط من روسيا، والمقدرة بـ56 مليار دولار، إذ فرض الرئيس ترمب زيادة نسبتها 25 في المائة في الرسوم الجمركية على الهند، لتبلغ نسبة التعرفة على السلع الهندية حالياً 50 في المائة، وهي الأعلى بين كل الشركاء التجاريين للولايات المتحدة.
بحسب دبلوماسي هندي كان في الصين: «انتظر بوتين مودي لمدة عشر دقائق لينضم إليه في سيارته الرئاسية من أجل لقاء ثنائي، وواصل نقاشه الشخصي معه في السيارة لمدة ساعة تقريباً بعيداً عن آذان الآخرين». وأعقب ذلك ساعة إضافية ضمن لقاء ثنائي رسمي بين الزعيمين، وبعده غادر مودي تيانجين عائداً إلى الهند.
في الواقع، حافظ كل من مودي وبوتين على تواصل قوي خلال الأسابيع القليلة الماضية، خاصة بشأن الحرب ضد أوكرانيا. وتحدث كل من الزعيمين مرتين على الأقل قبل «قمة ألاسكا» وبعدها بشأن الجهود الدبلوماسية لإنهاء الحرب الأوكرانية. وقبل مغادرة مودي متجهاً إلى اليابان والصين، أجرى مكالمة هاتفية مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
في المقابل، من المقرر أن يزور الرئيس الروسي الهند في ديسمبر (كانون الأول) لحضور القمة الثنائية السنوية. وكان مودي قد زار روسيا عام 2024 من أجل الهدف ذا ته.
أهمية البعد الياباني
على صعيد آخر، في حين تواجه كل من الهند واليابان ضغوطاً مزدوجة بسبب النفوذ الصيني، والتهديدات الأميركية، تعد زيارة مودي إلى اليابان لمدة يومين قبل التوجه إلى الصين لحضور «قمة منظمة شنغهاي للتعاون» رمزية، ومهمة استراتيجياً، كونها تمثل نموذجاً للتعاون بين القوى المتوسطة، خاصة في مواجهة التوترات التجارية المتصاعدة بين الهند والولايات المتحدة. وتجمع العلاقة بين تعاون أمني كبير، وتكامل اقتصادي، وتعاون تكنولوجي، وتبادل ثقافي في إطار شراكة شاملة توفر استقلالاً استراتيجياً للدولتين.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الهند واليابان دولتان عضوان في مجموعة الـ«كواد» (الحوار الأمني الرباعي)، ومن المقرر أن تستضيف الهند قمتها المقبلة بحلول نهاية العام الحالي. بالتالي، وسط هذه البيئة الجيوسياسية المعقدة، يُعد تعزيز العلاقات الهندية-اليابانية أمراً مهماً، إذ توفر اليابان للهند شريكاً يُعتمد عليه، ويدعم استراتيجيتها الخاصة بمنطقة «حوض المحيطين الهندي والهادئ».
أين «كواد» من نظام عالمي جديد؟
بناء على ما حصل في تيانجين، توقف مراقبون ومحللون طويلاً عند متابعة الرؤساء شي وبوتين ومودي وهم يتصافحون ويتبادلون الضحكات خلال القمة. وأيضاً شهدت مواقع التواصل الاجتماعي صخباً، إذ وصف كثيرون الوضع بـ«نقطة تحول» تبشر بـ«نظام عالمي جديد».
ولكن، هل سيظهر التجمّع الاستراتيجي المتجدد أو «الشراكة الثلاثية»، التي كثيراً ما يشار إليها باسم «الترويكا الروسية–الصينية-الهندية»، على أنها قوة كبرى على الساحة الجيوسياسية العالمية خلال 2025؟
المعلق السياسي الهندي سوشانت سارين قال إن مفهوم «ترويكا روسية–صينية-هندية» باعتبارها قوة استراتيجية مواجهة للهيمنة الأميركية يعود إلى نهاية تسعينات القرن الماضي. ولقد طرحه السياسي الروسي الكبير يفغيني بريماكوف.
وأردف سارين: «بدأت روسيا تتكلم عن تلك الترويكا على أنها قطب بديل للتحالفات التي تقودها الولايات المتحدة، مثل حلف شمال الأطلسي (ناتو)، والحوار الأمني الرباعي (كواد)، وبفضل ترمب عادت رائجة». وتابع: «لم يؤسس محور الترويكا على أساس الصداقة، بل تأسس خوفاً من النهج الأميركي غير المحسوب، والعقوبات الاقتصادية، والاضطراب العالمي. لم يعد الاستقلال الاستراتيجي خياراً فلسفياً للهند، بل ضرورة اقتصادية، ودبلوماسية. وقد جعل نهج كرة التحطيم المدمر، الذي يتبعه ترمب، الأمر واضحاً بشكل مؤلم. إن التقارب الثلاثي رمزي بدرجة كبيرة، والأفعال المنسقة محدودة، خاصة فيما يتعلق بقضايا الأمن والمسائل الاقتصادية».
مع ذلك، أوضح المعلق الهندي: «طبعاً، لا أحد يدعي أن هذا مثلث محبة، لكن العامل المشترك المتمثل في ترمب لم يجعل الحوار ضرورة فحسب، بل صار أمراً استراتيجياً. إنها ليست صداقة، بل إنها سعي للبقاء. لا يوجد تحالف هندي-روسي-صيني، ولا يوجد اتفاق دفاع متبادل، ولا اتحاد اقتصادي موقّع. تظل التوترات الحدودية بين الهند والصين حقيقية، ولانعدام الثقة جذور عميقة. مع ذلك ما صنعه ترمب هو ضغط مشترك، والضغط يصنع التحالف، حتى ولو كان مؤقتاً».
ولكن، ما مستقبل الـ«كواد» في أعقاب الظروف الجيوسياسية الحالية؟ لقد قرر ترمب التغيب عن قمة الـ«كواد» المقبلة في الهند، ما يشكل مؤشراً جيوسياسياً مهماً على حقيقة التوتر بين واشنطن ونيودلهي، إلى جانب الشكوك المتنامية إزاء مستقبل تحالف الـ«كواد» الذي يضم اليابان وأستراليا، إضافة إلى الهند والولايات المتحدة.
يذكر هنا أن ترمب قال في البداية إنه سيحضر القمة المقررة في نيودلهي خلال نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، لكنه تراجع عن قراره بعد أشهر من تدهور العلاقات مع نيودلهي بشأن التجارة والتعرفات الجمركية، ومزاعم ترمب المتكررة -التي نفاها- عن التوسط في صراع مايو (أيار) الهندي-الباكستاني.
التعرفات الجمركية الأميركية
فرض إدارة ترمب تعرفات أو رسوماً جمركية مرتفعة جداً على الصادرات الهندية إليها، وانتقادها الهند لشرائها النفط من روسيا، أحدثا -بلا شك- صدعاً في العلاقات دفع نيودلهي إلى البحث عن استقلال استراتيجي بعيداً عن واشنطن. وزاد ذلك الضغوط على تماسك ووحدة الـ«كواد»، وقوّض قوة التحالف بوصفها جبهة موحدة ضد نفوذ الصين الإقليمي.
ثم إن رد فعل الرئيس ترمب على «استعراض الوحدة» بين شي وبوتين ومودي في تيانجين تضمن انتقاداً حاداً، وتحذيراً. إذ رأى ترمب في «تقارب» القادة الثلاثة خلال القمة تحدياً مباشراً للمصالح الأميركية، خاصة بعد فرض تعرفة جمركية نسبتها 50 في المائة على السلع الهندية قبيل الاجتماع.
لقد أدان الرئيس الأميركي علناً القمة، وحذّر كلاً من الهند والصين وروسيا من إنشاء كتلة من شأنها تقويض القوة الأميركية، وقال إن العلاقات الهندية الودودة مع روسيا والصين كانت «أحادية الجانب»، وليست من الجانب الهندي على المدى الطويل.
كذلك انتقد ترمب الهند على مواقع التواصل الاجتماعي لتعاونها مع «دول استبدادية»، وأشار إلى اعتماد الهند الكبير على النفط الروسي، والمعدات العسكرية الروسية. وسواء كان المشهد في تيانجين عفوياً، أو مخططاً له بعناية، «تظل الرسالة واحدة»، بحسب تصريح كير جايلز، الزميل البارز في مركز معهد تشاثام هاوس البريطاني المرموق في لندن لـ«إن بي سي نيوز». ومما قاله جايلز: «العلاقة الوطيدة التي سعى ترمب إلى بنائها مع بوتين مطروحة حالياً بين بوتين وآخرين… والولايات المتحدة هي التي منحت الهند سبباً واقعياً للبحث عن صداقة وشراكة في موقع آخر».
رسالة الصين خلال احتفالاتها بعيد النصر
على جانب آخر، أشرف الرئيس الصيني شي جينبينغ على أكبر احتفال للبلاد بالنصر في 3 سبتمبر (أيلول)، وانضم إليه، بجانب فلاديمير بوتين، الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون، ما يوضح تضامناً دبلوماسياً مع الزعيمين، ومعارضتهما للضغط الغربي.
بالمناسبة، يشهد العام الحالي الذكرى الثمانين لهزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، ولقد حضر العرض العسكري أكثر من 50 ألف متفرج في ساحة تيانانمن. وفيه استعرض «جيش التحرير الشعبي» الصيني أسلحة متطورة، بينها صواريخ فوق صوتية كُشف عنها حديثاً، ومقاتلات سرية، وطائرات مسيّرة متطورة، وأنظمة رادار. وجاء العرض العسكري على خلفية تدريبات عسكرية تجرى قرب تايوان، وخلافات بشأن بحر الصين الجنوبي، الأمر الذي يوضح نهج بكين القوي فيما يتعلق بالوضع الجيوسياسي.
وحول هذا الجانب رأى المحلل سارين أن «الوجود القوي لقادة استبداديين، أبرزهم بوتين وكيم، يعبر عن بزوغ (محور الانقلاب) الذي يتحدى الهيمنة الغربية، ويطرح سرداً بديلاً لإرث الحرب العالمية الثانية». وأضاف المعلق: «العرض العسكري لم يوضح القوة العسكرية الصينية فحسب، بل أيضاً عزمها الجهر بتحديها، والتصدي للنفوذ الغربي في آسيا… العرض العسكري -احتفالاً بعيد النصر الصيني- جاء استعراضاً متعمداً للقوة العسكرية، والوحدة الدبلوماسية مع روسيا وكوريا الشمالية، والطموح لإعادة تشكيل توازن القوى الإقليمية، ويرسل إشارة قوية محلياً ودولياً…».
الشرق الأوسط