ليست المسألة الطائفية في سوريا، ولبنان طبعا، وليدة الصدفة أو الاستثناء، وهي لم تكن يوماً معزولة عن التاريخ وكتبه المقدسة والمحرمة، التي لا تزال تمثل مصدراً رئيسياً لتشريع الفوارق والمجازر.. وعمليات الفرز التي تسجل في هذه الحقبة ذروة غير مسبوقة، في تحليل الدم وسفكه، وفي التصفية المسندة الى عقائد دينية، تتخطى الهويات الوطنية والانتماءات السياسية. ولو كان هناك مؤشر علمي لقياس منسوب الطائفية في البلدين، لكانت النتيجة مرعبة فعلا، ولا تقارن بأي حقبة من تاريخ المشرق العربي، بما فيها “طوشة” مذابح المسيحيين في العام 1860.
الحديث لا يدور هنا عن تراجع الثقة بين أبناء الطوائف، فهي لم تكن موجودة أصلاً ، منذ أن كان التعايش فرضاً واجباً أملته الطبيعة وأرجأت تحديثه على الدوام، بل عن تقدم مذهل لفكرة إنكار وجود الاخر، او التعاطي معه بوصفه عبئاً على الاجتماع الوطني.. وإنتشار واسع لخيار التخلص من ذلك الوجود نهائياً إما بالتصفية الجسدية أو بالتهجير لمئات الالاف بل الملايين من السكان. ولا تستثنى طائفة أو مذهب أو فرقة تسكن هذا الشرق الملعون، من شعور راودها في الفترة الأخيرة بأنها فعلا على وشك الفناء أو الزوال..أو حتى النفي الى بلاد بعيدة.
الآن هو وقت الذروة، الذي لم تشهده سوريا من قبل، حيث تفجر في وقت واحد تقريبا، الصراع الأهلي الكامن بين جميع الطوائف والمذاهب والفرق من دون استثناء، ومن دون أن يشعر أبناء أي طائفة او مذهب أنه يمكنهم ان يكونوا على الحياد، أو على دور التوسط بين الباقين الذين يشهرون كتب التاريخ ويستلون سيوفه. تماما كما هي الحال دائما في لبنان، حيث ترتسم خطوط التماس، عند أي اشتباك أو خلاف، وتنتشر على مساحة الأراضي اللبنانية كلها. مع فارق بسيط بين البلدين، أن لبنان كان محظوظاً بجاذبيته للتدخلات الخارجية، التي كانت تساهم في إشعال الحرائق ثم إخمادها، بينما لم تكتسب سوريا هذه التجربة، ولم تراكم الخبرة الكافية لتحويل حرائقها الى أحداث إقليمية أو عالمية كبرى.
مجزرة كنيسة مار الياس في دمشق الاحد الماضي، لم تكن سوى ترجمة لهذا المسار السوري، وقبله اللبناني، المشؤوم. الحريق الطائفي الكبير إمتد الى مكان إقامتهم وعبادتهم، بعدما إلتهم العلويين، وفتك بالدروز، والاسماعيليين، وأنهى الشيعة، وأخرج الكرد، ولم يرحم السنة، وحال دون انتفاض غالبيتهم على تلك الردة الى الى ما قبل قيام الدولة السورية.. وهو ما جعل المجزرة ممكنة، وما وضعها في سياق الاضرار الجانبية المحتملة لعملية إستعادة الحق السني التاريخي في حكم سوريا، بناء على شرعية “أموية” مشوهة، أو على شرعية خارجية مؤقتة، لن تصمد طويلا لا في تركيا ولا في أميركا ولا في عاصمة عربية، سلّمت بأن حكام دمشق الإسلاميين الحاليين، يتمتعون بقرينة الاعتدال التي تؤهلهم للحصول على تفويض عام بقتال الأكثر تطرفاً من شركائهم السابقين..من خارج أطر مؤسسات الدولة (المعتدلة) المنشودة التي لم تظهر ملامحها حتى الان، على الرغم من مرور ستة أشهر على تحلل النظام الاسدي وزواله من الوجود.
لم تظهر الأيام الماضية على المجزرة أن سوريا، كمشروع دولة إسلامية “معتدلة”، وشتات مجتمع تتبادل طوائفه ومذاهبه الأحقاد والكراهيات، تمتلك الحد الأدنى من الحصانة، إن لم يكن النية، لوقف هذا الحريق الهائل، الذي يمتد يوما بعد يوم الى جميع أنحائها. لامجال للرهان على الخارج وتدخله، لأنه حصل فعلا، وعبّر عن تسامح عربي ودولي مخيف إزاء مشروع تصفية الوجود المسيحي السوري، يشبه الى حد بعيد التساهل إزاء ما تعرض له العلويون والدروز وغيرهم..وعن إنعدام مسؤولية لدى الغالبية السورية التي لا تزال تجادل في هوية المرتكبين، أو تقارن بين ما جرى في حي الدويلعة الدمشقي وما سبقه من مذابح في التاريخ السوري، أو عن مخاطر تلك المجزرة الجديدة على مشروع الحكام الإسلاميين واستقرار الدولة التي “يبنونها”. سوريا تحترق. واللهب لن يتأخر في بلوغ لبنان.