اعتاد اللبنانيون والفلسطينيون والسوريون على إبداء الحسرة على ما كان معروضا عليهم سابقا ورفضوه. كان حكام هذه الدول، بسبب ضغوطات داخلية أو إقليمية أو أنانية، يتراجعون، في لحظة الحسم، عن القبول بما هو معروض عليهم، في إطار العمليات السلمية الكثيرة التي شهدها الشرق الأوسط، ليعودوا هم أو من يخلفهم ويتطلعون إلى نيل ما هو أقل بكثير.
سبب هذا التقهقر في التوصل إلى تسويات سلمية مع إسرائيل، يعود إلى عدم الإعتراف الواقعي بموازين القوى. ثمة من كان يفرض أوهامه على الجميع. أوهام تقوم على تخيّلات تفيد بأن الصمود لسنوات، سوف يترافق مع قلب موازين القوى، بحيث تضعف إسرائيل وتخسر حلفاءها الاستراتيجيين فيما يشتد عود قوى الممانعة المصرّة على إبقاء الصراع مفتوحا حتى رمي الكيان العبري في البحر، أو على الأقل تقزيمه، وحصره في رقعة جغرافية صغيرة جدا، وذلك بعد إنجاز الانقلابات على أنظمة الحكم المعتدلة في المنطقة!
وآخر هذه التصورات كان قد عبر عنها بوضوح كل من أمين عام “حزب الله” الراحل حسن نصرالله وزعيم حركة “حماس” الراحل يحيى السنوار، في خطابات قبل الاغتيال، اذ شدّدا على تدفق ملايين المناصرين عبر الحدود لتوجيه ضربات قاضية ضد إسرائيل.
وحاليًا، وفي سياق التحسر على مكتسبات الماضي، وبعد تساقط الأوهام بفعل التفوق الكاسح للآلة العسكرية الإسرائيلية المدعومة بالتحديد من الولايات المتحدة الأميركية، يطمح الجميع في العودة إلى ما كانت عليه الحال، قبل السابع من أكتوبر ٢٠٢٣:
لبنان يريد تحرير الأراضي المحتلة وعودة السكان إلى قرى الحافة الأمامية وتحرير الأسرى، وتثبيت وقف العمليات العدائية، وهو مستعد من أجل تحقيق ذلك لتقديم ما يكفي من ضمانات لإسرائيل، من خلال مفاوضات سياسية عابرة للتقنيات، في اجتماعات لجنة الميكانيزم “المدنية” التي ستتكثف بدءًا بالتاسع عشر من كانون الأوّل الحالي. قبل هذا التاريخ، كان المبعوث الأميركي السابق آموس هوكشتاين يعمل على إقناع لبنان وإسرائيل بالدخول في مفاوضات مباشرة لتنظيف الحدود البرية بين البلدين من الاختراقات والتجاوزات، لكنّ حزب الله، بحجة مؤازرة غزة، اختار أن يكون لبنان جزءًا من “طوفان الأقصى” الطامح إلى رمي اسراىيل في البحرين الأحمر والأبيض!
وفي سوريا، يجهد الرئيس الجديد أحمد الشرع للعودة إلى حدود العام ١٩٧٤ وتفعيل اتفاقية فصل القوات، بحيث ينسحب الجيش الإسرائيلي من المناطق الجنوبية التي كان حزب الله وفيلق القدس، يعملان بلا هوادة، على تحويلها إلى جبهة حرب تعزز نطاق الجبهة اللبنانية. ويأتي هذا الطموح السوري الجديد بعد سنوات من تخلي الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد عن استعادة الجولان المحتل، بسبب رفضه السيادة الإسرائيلية على جزء من بحيرة طبريا، وعدم قدرة بشار الأسد، في وقت لاحق، على التخلي عن “حرب ايران” في المفاوضات غير المباشرة التي بدأها مع إسرائيل!
وفي غزة، لا طموح يفوق التطلع إلى العودة إلى ما كانت عليه الحال، ولو على جثث سبعين ألف ضحية وعلى بساط من رماد. قبل ذلك، كان المعروض على غزة المزيد من الانفتاح الاقتصادي والمساعدات المالية والمشاريع الاستثمارية، ولكنّ محمد السنوار اختار، بالتنسيق، مع فيلق القدس أن يكون الرجل التاريخيّ الذي سيرمي إسرائيل في البحر، بدعم طوفان بشري سوف يتدفق عليها من كل الجبهات المفتوحة ومن كل حدب وصوب!
حاليًا، تحوّلت الأحلام إلى أوهام، ولكنّ ذلك لم يمنع المهزومين من تفعيل مجدد لمعادلة “انتظار غودو”، وها هو الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، يجلس أمام حفرة مليئة بالقتلى والدمار والنزوح والعجز، مهاجمًا السلطة اللبنانية التي اختارت التفاوض الصعب والمعقد مع إسرائيل، في محاولة منها لتجنيب لبنان عموما وبيئة حزب الله خصوصا، ويلات جديدة تقف خلف باب الزمن الداهم، مرددًا مع المرشد الإيراني علي خامنئي في الذكرى السنوية الأولى لسقوط حليفه الأهم والأبرز، بشار الأسد، الملعون بسبب قهر شعبه، بأنّ المستقبل للشعوب – وقصده تلك الفئات الموالية لإيران- وليس للأنظمة، أي تلك التي ترفض هذا الجموح الإيراني نحو الجحيم!