سركيس قصارجيان
في السنوات الأخيرة، برز اسم “ممر زانغيزور” كعنوان دائم في النقاشات الجيوسياسية المتعلقة بمنطقة جنوب القوقاز، في تداخلٍ بين خرائط الطرق والتحالفات العسكرية، وبين المصالح الاقتصادية والصراعات الإقليمية.
الممر، الذي يمتد على طول نحو 43 كيلومتراً عبر الأراضي الأرمينية، يربط بين الجزء الغربي من أذربيجان ومنطقة ناخيتشيفان ذات الحكم الذاتي، وبدلاً من كونه ممراً لوجستياً لتنشيط حركة التجارة، تحوّل بسرعة إلى بؤرة للتجاذب بين القوى الكبرى.
سباق الجغرافيا بين أذربيجان وأرمينيا
بالنسبة لأذربيجان، يشكّل الممر فرصة استراتيجية وتاريخية. فمن جهة، يسمح لها بربط أراضيها الرئيسية بإقليم ناخيتشيفان دون الحاجة إلى المرور عبر الأراضي الإيرانية، وهو ما تعتبره باكو خطوة ضرورية لاستكمال ما تصفه بـ”استعادة الوحدة الإقليمية” وتخليص إيران من ورقة قويّة ومؤثرة.
ومن جهة أخرى، يعزز هذا الممر موقع أذربيجان كممر بديل للطاقة والتجارة نحو أوروبا، ضمن ما يُعرف بـ”الممر الأوسط” الذي يتجاوز كلاً من روسيا وإيران.
وتشير تقديرات إلى أن ا لمشروع قد يسهم في زيادة صادرات باكو غير النفطية بنحو 710 ملايين دولار سنوياً، إلى جانب تقليص كلفة النقل التجاري إلى تركيا بمسافة تقارب 342 كيلومتراً.
في المقابل، تبدو المسألة أكثر تعقيداً بالنسبة لأرمينيا، التي تجد نفسها الحلقة الأضعف في صراع الممرات الموسومة بالتحالفات الإقليمية. من الناحية الاقتصادية، ترى حكومة يريفان في المشروع فرصة لفك العزلة الجغرافية التي عانت منها البلاد لسنوات، خصوصاً مع الوعود بالحصول على قروض من الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي لتحديث البنية التحتية في محافظة سيونيك الجنوبية. ووفق بعض التقديرات، قد يسهم الممر في تحقيق نمو اقتصادي بنسبة 30% إذا أُدير ضمن رؤية متوازنة تحفظ السيادة الأرمينية عليه وتفتح الأسواق أمام المنتجات الأرمينية القليلة. لكن هذه الوعود الاقتصادية تصطدم بخوف عميق من المساس بالسيادة الوطنية. فالمعارضة الأرمينية، التي تكتسب زخماً داخلياً في الآونة الأخيرة، تصف المشروع بأنه “معاهدة كارس جديدة”، في إشارة إلى الاتفاق الذي فرضه الاتحاد السوفييتي وتركيا على أرمينيا في عام 1921، وتسبّب في خسارة أرمينيا لمساحات جغرافية كبيرة.
إصرار أذربيجان على منح الممر وضعاً يتيح “المرور غير الخاضع للسيادة الأرمينية”، يثير جدلاً قانونياً وسياسياً حاداً في أرمينيا والجوار. وفيما تشير الاحتجاجات المتكررة في يريفان وسيونيك إلى رفض شعبي لفكرة تحويل الممر إلى “ممر أذربيجاني” داخل الأرض الأرمينية، خصوصاً في ظل الحديث عن مقترحات مثل عقد إيجار لمدة 100 عام تديره شركات أميركية، تخشى باكو من أن يؤدي التباطؤ الأرميني أو التدويل الغربي لإدارة الممر إلى تعطيل المشروع أو تفريغه من مضمونه الاستراتيجي.
الممر الأذربيجاني يهدد مصالح إيران وروسيا
ليست المعارضة الأرمينية وحدها الرافضة لطروحات تدويل الممر أو تسليمه لشركات مقرّبة من أنقرة وباكو. ترى إيران في المشروع تهديداً مباشراً لمصالحها الحيوية في جنوب القوقاز. فتنفيذه يعني حرمان طهران من منفذها البري الوحيد إلى القوقاز، وتهديد مشروع سكة حديد قزوين–رشت–آستارا، الذي تراهن عليه لتأمين التجارة مع أوروبا وآسيا الوسطى. كما أنه يقلّل من أهمية إيران في مبادرة الحزام والطريق الصينية، لصالح مسارات بديلة تمر من أذربيجان وتركيا.
لذلك، فإن ردّ الفعل الإيراني لم يتأخر. فمنذ عام 2021، بدأت القوات الإيرانية بإجراء مناورات عسكرية مكثفة قرب الحدود الأرمينية، آخرها مناورات “آراس-25” في تموز/يوليو 2025، والتي تضمنت محاكاة لضرب منشآت لوجستية. في المقابل، وجّه علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الإيراني علي خامنئي، تحذيرات صريحة من أن الممر يُعد جزءاً من “استراتيجية أميركية لتطويق محور المقاومة”.
أما روسيا، التي تعاني من نزيف حاد لنفوذها في القوقاز، خاصة بعد انسحابها التدريجي من ناغورني كاراباخ وخسارة قواعدها العسكرية في أرمينيا، فتتوجّس اليوم من أن يؤدي التفكك الوشيك لتحالفها مع أرمينيا، واقتراب باكو من تركيا وإسرائيل، إلى جعلها في موقع المراقب لا اللاعب في منطقة لطالما اعتُبرت الحديقة الخلفية للكرملين والنطاق الحيوي للأمن القومي الروسي. وتخشى روسيا من أن يتسبّب الإشراف الغربي أو الأميركي على الممر في تحجيم دورها نهائياً، خصوصاً في حال إدارة الممر عبر جهات أو شركات غربية، بعيداً عن أي رقابة روسية أو إقليمية.
مستقبل جنوب القوقاز في لعبة كبرى
من جهتها، تنظر الولايات المتحدة إلى المشروع كممر استراتيجي لفصل إيران عن أرمينيا، وتقويض نفوذ روسيا في القوقاز، وتعزيز تحالفها مع تركيا. تقترح واشنطن نموذج “الإدارة الخاصة” للممر من خلال شركات أميركية بعقود طويلة الأمد، ما يثير انتقادات داخل أرمينيا ووصفه بأنه استعمار مقنّع.
تركيا ، بدورها، ترى في الممر حجر الأساس لاستراتيجيتها الكبرى في “الممر الأوسط”، والتي تهدف لربط آسيا الوسطى بأوروبا عبر الأراضي التركية، مع تقليص الاعتماد على إيران وروسيا، وهو ما يتقاطع مع رغبة أذربيجان في لعب دور “الجسر” بين الشرق والغرب، خاصة في ملف الطاقة حيث تُزوّد أوروبا بالغاز وإسرائيل بالنفط.
هذه الطموحات تقابل باعتراضات إيرانية تنذر بتصعيد محتمل، خاصة إذا تمادت واشنطن وأنقرة في فرض حلول أحادية.
ومع ضعف الرد الروسي، وارتباك الحكومة الأرمينية، قد تتحول الأرض الأرمينية إلى ساحة صراع بين وكلاء إقليميين ودوليين.
ممر “زانغيزور” لم يعد مجرد مشروع بنى تحتية أو حلقة وصل تجارية. بل تحوّل إلى مرآة تعكس الصراعات العميقة التي تعصف بالإقليم، بين طموحات توسعية ومخاوف سيادية، وبين رؤى للتنمية ومخططات للتطويق والهيمنة.
ويبقى مصير الممر معلقاً بين احتمالات الحلول الوسط التي تقودها أوروبا، والسيناريوات الصدامية التي تلوّح بها باكو وأنقرة. أما القرار النهائي لن يكون تقنياً ولا اقتصادياً، بل سياسياً واستراتيجياً بامتياز، وسيحدّد مستقبل جنوب القوقاز لعقود قادمة.
النهار