لونا الشبل.. اسم ارتبط بالقوة والنفوذ داخل أروقة السلطة السورية، وجهٌ جمع بين الإعلام والسياسة، وصوت النظام في مواجهة الثورة. من مقدمة برامج إلى مستشارة خاصة لبشار الأسد، سيطرت على دوائر القرار بحضورها وكاريزمتها. لكن في يوليو/تموز 2024، انتهت مسيرتها فجأة بحادث سير غامض قرب دمشق، ليترك موتها الكثير من التساؤلات حول مصير أبرز شخصية نسائية في قلب النظام السوري.
البداية
وُلدت لونا الشبل في السويداء في العام 1975، ودرست اللغة الفرنسية ثم الإعلام، قبل أن تبدأ مسيرتها المهنية في التلفزيون السوري.
لمعت موهبتها سريعاً، وانتقلت إلى قناة الجزيرة في الدوحة، حيث أصبحت من أبرز مقدّمي البرامج السياسية وأكثرهم حضوراً.
لكن عودتها إلى دمشق في العام 2010 كانت نقطة التحوّل الحاسمة في مسيرتها؛ فبدلاً من العودة إلى مقعد المذيعة، التحقت بفريق القصر الرئاسي، لتتدرّج بسرعة داخل دوائر صناعة القرار.
حين اندلعت الحرب السورية، وجدت السلطة في لونا الشبل ما كانت تبحث عنه: وجهاً أنثوياً قادراً على الدفاع عن النظام بلغة واثقة وعصرية.
تولّت إدارة المكتب الإعلامي والسياسي في رئاسة الجمهور ية، ثم أصبحت مستشارة خاصة للأسد في نهاية العام 2020.
فهمت لونا اللعبة باكراً؛ ففي النظام السوري، النفوذ لا يُمنح؛ بل يُنتزع بالولاء وبالقدرة على البقاء داخل الدائرة الموثوقة. كانت تُتقن خطاب السلطة، وتعرف كيف تلمع صورتها من دون أن تقترب من الخط الأحمر. ولذلك صعدت إلى موقعٍ لا يسمح عادة لغير رجال الأمن بالوصول إليه.
كانت تتحدث باسم النظام لا بصوتها، وربما لهذا السبب أصبحت إحدى أكثر الشخصيات حساسية في المشهد السوري؛ لأنها جمعت بين الكاميرا والقرار، بين الصورة والسياسة.
صوت النظام
منذ العام 2011، أدارت لونا الشبل آلة الإعلام الرسمي التي واجهت العالم برواية واحدة: أن الدولة تخوض حرباً ضد الإرهاب. كانت مسؤولة عن صياغة اللغة التي شُيّد عليها خطاب النظام ــ لغة التماسك والوطنية والاستقرار ــ في مواجهة خطاب الثورة والفوضى.
على الصعيد الداخلي، أعادت هيكلة الرسائل الإعلامية لتبدو أكثر احترافاً وانضباطاً؛ وعلى الصعيد الخارجي، أشرفت على التواصل مع القنوات الأجنبية، وأدارت بعناية الصورة التي أراد القصر أن تُنقَل عن الأسد.
لكن هذا الدور منحها سمعة مزدوجة: فبالنسبة إلى الموالين، كانت رمزاً للولاء والكفاءة؛ وبالنسبة إلى الم عارضين، الوجه الأنيق لآلة القمع. وفي الحالتين، كانت حاضرة كمن يختصر رواية السلطة بكاملها.
النفوذ
تعتبر لونا الشبل جزءاً من شبكة النفوذ داخل القصر الرئاسي، تلك التي تتقاطع فيها السياسة بالأمن وبالتمثيل الإقليمي.
وبالرغم من أنها لم تُعلن انتماءها لأيّ جناح بعينه، فإن صعودها السريع أزعج دوائر أقدم وأكثر رسوخاً في المنظومة، خصوصاً تلك المرتبطة بالأجهزة الأمنية وبالعلاقات الإيرانية داخل النظام.
في السنوات الأخيرة قبل وفاتها، بدأ نفوذها يتراجع بهدوءٍ محسوب. فقد استُبعدت هي وزوجها من اللجنة المركزية لحزب البعث، وتناقص ظهورها الإعلامي على نحوٍ لافت.
كان واضحاً أن الموقع الذي شغلته داخل القصر لم يعد آمناً كما كان، وأن موازين القوة الداخلية بدأت تميل ضدها.
وبالرغم من ندرة المعلومات الموثقة عن حياتها الشخصية، فقد تداولت مصادر إعلامية وشخصيات قريبة من القصر روايات تتحدث عن توترات شديدة داخل الدائرة الضيقة للرئاسة.
تشير بعض تلك الروايات إلى أن علاقة شخصية مع الأسد ــ لم يؤكد وجودها رسمياً ــ كانت سبباً في خلافات مكتومة بينها وبين شخصيات نسائية أخرى في الوسط الإعلامي.
وتقول المصادر نفسها إ ن نفوذها داخل القصر كان يثير رهبة حقيقية لدى العاملين هناك؛ إذ كانت تتصرف بثقة مطلقة، وتُصدر الأوامر حتى لكبار المسؤولين، في حضور الأسد نفسه، من دون أن يجرؤ أحد على معارضتها.
سواء كانت تلك الشهادات دقيقة أم لا، فإنها ترسم ملامح امرأة جمعت بين السلطة والجرأة، واستفزّت نظاماً لا يحتمل المنافسة في دوائره الضيقة.
ولهذا، حين بدأت صورتها تتراجع، بدا سقوطها أقرب إلى نتيجة حتمية منه إلى مجرد مصادفة أو حادث عرضي.
حادث أم تصفية؟
لكن الغرور أعمى بصيرة لونا الشبل، فنسيت ــ أو لعلها تناست ــ طبيعة النظام الذي خدمته: نظام لا يحتمل الرموز حين تنتهي أدوارهم، ويبتلع أبناءه حين يشعر بأنهم تجاوزوا حدود الدور المرسوم لهم.
لم تقتل ــ إن كانت قد قتلت فعلاً ــ لأنها خرجت عن الخط؛ بل لأنها أصبحت جزءاً منه إلى حد لم يعد يُحتمل.
في النهاية، لم تنجُ لا بمهارتها ولا بولائها؛ كأن السلطة التي صنعت منها امرأة قوية، هي نفسها التي ابتلعتها حين لم تعد بحاجة إلى وجه يبررها أمام العالم.
بعد أسابيع من تضييق متزايد، أُوقف زوجها عمار ساعاتي ــ الذي يملك مع لونا منتجعاً في مدينة سوتشي الروسية ــ في الوقت الذي كان يستعد فيه للسفر إلى روسيا، على أن تلحق به زوجته.
لكن إجراءات سفره أُوقفت في اللحظة الأخيرة، وتبلغ أنه ممنوع من مغادرة البلاد.
في الوقت نفسه، أودع شقيقها العميد ملهم الشبل السجن في إدارة أمن الدولة، بتهمة “التخابر مع جهات معادية”.
وفق مصادر من داخل القصر تحدّثت إلى المدن، بدأت لونا تستشعر الخطر، وبدأت تلوح علناً بامتلاكها وثائق حساسة يمكن أن تحدث صدمة داخل الدائرة الرئاسية.
وتضيف المصادر أن حسام لوقا، رئيس إدارة المخابرات العامة ــ الموصوف داخل الأجهزة بـِ “عنكبوت المخابرات السورية” ــ تولى شخصياً التحقيق معها، في خطوة فسرت حينها بأنها إشارة إلى فقدان الثقة بها داخل القصر. وتقول الروايات إن الخلاف بينها وبين بشار الأسد بلغ مرحلة الصدام المباشر قبل أيام من مغادرتها القصر للمرة الأخيرة.
نهاية متوقعة
في يوليو/ تموز 2024، كانت النهاية المفاجئة. حادث سير على طريق يعفور قرب دمشق، بدا في ظاهره عابراً، لكنه تحوّل سريعاً إلى قصة غامضة حبست تفاصيلها بين جدران القصر.
الرواية الرسمية اكتفت بالقول إن سيارة لونا الشبل انحرفت عن الطريق، لكن الصمت الذي تلا الحادث كان أثقل من الخبر نفسه.
فالمستشارة الرئاسية التي اعتادت الأ ضواء، دُفنت على عجل، من دون مراسم عامة، ولا بيانٍ رسمي، ولا حتى نعي يليق بمن كانت حتى الأمس القريب وجه النظام الإعلامي الأول.
تسريبات من داخل دمشق تحدّثت عن اصطدام متعمّد، وعن تحقيقات أغلقت بسرعة لافتة. بعض من عايشوا الحدث وصفوه بأنه تصفية داخلية لجناح فقد الحماية، في حين رآه آخرون رسالة صارمة من داخل النظام: لا أحد أكبر من اللعبة.
مصادر خاصة تحدثت إلى “المدن” كشفت تفصيلاً لم يُعلن سابقاً:
بعد الحادث مباشرةً، تعرضت لونا الشبل لضربة قوية من الخلف بأسفل بندقية، وهذا ما أدى إلى إصابتها بكسور قاتلة في الجمجمة ووفاتها على الفور.
ويؤكد طبيب شرعي فضّل عدم ذكر اسمه ــ أن الفحص الأولي أظهر ضربة عنيفة على مؤخرة العنق والرأس، قائلاً: “لم تكن وفاة ناتجة عن ارتطام عرضي؛ بل عن ضربة قُصد بها إسكات صوت لم يعد ضرورياً”.
عن المدن بتصرّف
