"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث
تابعونافلاش نيوز

لبنان.. بلد يتنفس تحت الرماد

نيوزاليست
الاثنين، 2 يونيو 2025

لبنان.. بلد يتنفس تحت الرماد

راغب ملي

في بلدٍ اعتاد شعبه أن يستيقظ على كارثة وينام على أخرى، لم تعدْ الحرب وحدها مصدر الخوف، بل الحياة اليومية بكلّ تفاصيلها الصغيرة. هنا، حيث يعيش الناس فوق أرض مُشبعة بالذكريات الثقيلة والانفجارات المؤجّلة، يتحوّل الصبر إلى وسيلة للبقاء، لا فضيلة. أما الألم، فغالباً ما يُؤجَّل أو يُسكّت كي تستمر عجلة البقاء.

ورغم ما سُمِّي بـ”اتفاق وقف إطلاق النار” بين حزب الله وإسرائيل في نهاية نوفمبر/ تشرين ثاني 2024، فإنّ الواقع يُظهر شيئاً مختلفاً، إذ يُمكن وصف هذا الاتفاق فعلياً بأنه وقف إطلاق نار من طرف واحد، التزمت به المقاومة في لبنان، في حين لم تتوقّف الاعتداءات الإسرائيلية، فما زالت الطائرات الحربية تخرق الأجواء، والقذائف تسقط على القرى الحدودية، والخوف يخيّم على حياة المدنيين الذين لم يعودوا إلى منازلهم حتى اليوم، إمّا بسبب التهديدات الأمنية أو الدمار الشامل.

لم يكن هذا الصراع سوى حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الأزمات التي جعلت الحياة في لبنان تتشكّل على إيقاع الأزمات. فمنذ عام 1975، لم تنعم البلاد بفترة استقرار حقيقي؛ الحرب الأهلية، والغزو، والاحتلال، والنزاعات المتكرّرة، والانهيار المالي، وانفجار مرفأ بيروت… كلّها فصول من رواية غير مكتملة، تتغيّر شخوصها، لكن ألمها واحد.

العيش في لبنان يعني الاعتياد على الخوف، وعلى الترقّب، وعلى التفاصيل الصغيرة التي تتحوّل فجأة إلى تهديد وجودي. وما يجعل التجربة النفسية في هذا البلد مختلفة عن مجرّد المرور بحدث صادم هو أنّ الأحداث الصادمة لا تنتهي، بل تتوالى، في نمط يشبه تياراً لا يتوقّف. وهذا ما يجعل الحالة النفسية أقرب إلى صدمة مستمرّة، لا تمنح الإنسان فسحة للتعافي أو لإعادة البناء الداخلي.

الضغط النفسي في لبنان لا يرتبط فقط بالحرب أو بالقصف، بل يتسلّل إلى تفاصيل الحياة اليومية؛ انقطاع الماء، وغياب الكهرباء، وصعوبة التنقل، وانهيار الخدمات العامة، وغياب أيّ أفق واضح للنهوض. ومع دخول البلاد في عهد سياسي جديد بعد انتخاب الرئيس جوزاف عون رئيساً للجمهورية ونواف سلام رئيساً للحكومة، تعلّق المواطنون ببعض الآمال بانطلاقة إصلاحية مختلفة، إلّا أنّ الواقع على الأرض لا يزال صعباً، والمعيشة اليومية ما زالت ترزح تحت وطأة التدهور البنيوي في الخدمات والاقتصاد.

كثيراً ما يُقال إن اللبنانيين يتمتّعون بمرونة خارقة. ويُحتفى بذلك كما لو أنه وسام شرف. لكن الحقيقة أن الترويج لفكرة “المرونة” المستمرّة يتحوّل تدريجياً إلى عبء ثقيل. فهي تبرّر استمرار المعاناة، وتمنحها صفة الاعتياد، وتُخفي الحاجة الحقيقية إلى الرعاية، والاعتراف بالألم، والسماح بالضعف.

الآثار النفسية لهذا الواقع تظهر بوضوح. ففي عام 2023، شهد لبنان ارتفاعاً بنسبة 21% في حالات الانتحار مقارنة بالعام الذي سبقه، وفق تقارير محلية، كما أشارت دراسات ميدانية إلى زيادة في معدلات القلق، والاكتئاب، ونوبات الهلع، خصوصاً بين الفئات الشابة والنازحين.

ومع ذلك، تظلّ الرعاية النفسية ترفاً لا يقدر عليه كثيرون. فالقطاع الصحي منهك، والتكلفة مرتفعة، وخدمات الدعم محدودة ومركّزة في المدن الكبرى. يضاف إلى ذلك النظرة الاجتماعية التي لا تزال تضع وصمة على من يطلب المساعدة النفسية، ما يفاقم من حدّة المشكلة.

الوضع الاقتصادي المتهالك ليس عنصراً منفصلاً عن الأزمة النفسية، بل هو في قلبها. فمع انهيار الليرة اللبنانية بما يزيد عن 95% من قيمتها منذ 2019، وتراجع متوسط الرواتب إلى أقل من 10% من قيمتها الفعلية، أصبحت أبسط متطلّبات الحياة عبئاً يومياً. فالبطالة، والفقر، ونقص الموارد، كلّها تضغط على الفرد وتدفعه نحو العزلة أو الانهيار.

ولأن الوتيرة المُتسارعة للأحداث لا تمنح الناس فرصة للتفكير أو المعالجة، تتكدّس التجارب في الذاكرة كطبقات من غبار لا يُنفض، ينتقل الناس من أزمة إلى أخرى، من دون أن يفهموا تماماً ما مرّوا به، أو ما خلّفته تلك التجربة فيهم.

في هذا السياق، يصبح الإنسان أشبه بماكينة مصمّمة للتأقلم، لا للحياة. يبتسم في وجه الكارثة، ينشغل بالروتين، يتهرّب من التفكير، ويحاول جاهداً ألّا ينهار. لكن هذه الآلية، وإن بدت فعّالة على المدى القصير، تحمل في طياتها خطورة كبيرة، لأنها تؤدي إلى الخدر العاطفي، وتُفقد الفرد قدرته على التفاعل الطبيعي مع مشاعره، ما ينعكس على علاقاته، وعمله، وصحته النفسية والجسدية.

ووسط هذا المشهد القاتم، قد يصعب الحديث عن الأمل. لكن الأمل لا يُقاس بنتائج ملموسة فحسب، بل أحياناً يكون مجرّد الوعي بما نمرّ به، والاعتراف بإنسانيتنا، خطوة في اتجاه الشفاء. فالبلاد التي لا تزال قائمة رغم كل ما مرّ بها، لا ينقصها إلّا أن تعترف بوجعها، وتمنح ناسها فرصة للراحة، لا للمزيد من الصبر.

العربي الجديد

المقال السابق
لماذا تتم إقالة مؤيدين لاسرائيل من ادارة ترامب؟
نيوزاليست

نيوزاليست

newsalist.net

مقالات ذات صلة

إسرائيل... لماذا تفوَّقت في لبنان وليس في اليمن؟

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية