عندما يتم تصنيف لبنان من قبل أميركا والغرب عامة بأنه دولة فاشلة، أو حتى وهمية حسب التوصيف الرائج مؤخرا، وعندما يتشدد الاشقاء العرب في الحكم على لبنان بأنه دولة عصية على الإدارة والإصلاح، تكون زيارة البابا لاوون الرابع عشر بمثابة بارقة أمل ورسالة رجاء بأن لبنان لم يصبح على طريق الزوال.
لعل هذا هو المعنى السياسي الأهم لزيارة رئيس دولة الفاتيكان الى دولة لبنان المتعثرة، التي وصل شعبها، لا سيما المسيحيين منهم، الى حافة اليأس من إمكان إنقاذها، في المستقبل القريب، لنقص في المخيلة الوطنية، وفيض من قوة وارثي الحروب والانقسامات الاهلية، وطوفان من التهديات والتحديات الخارجية.. وكل ما عدا ذلك من معاني تلك الرحلة البابوية الرعوية، هوامش مستوحاة من الماضي، بعضها يهادن الواقع اللبناني، أو ربما يجافيه.
ما يجدر التوقف عنده هو ان زيارة البابا، كزعيم لدولة عظمى روحية ومعنوية مثل الفاتيكان، تعوض غياب بقية الزعماء الكبار في المنطقة والعالم عن لبنان، الذين باتوا يكتفون بإيفاد مبعوثين صغار، لا يمكن ان يقارن أي منهم بالموفد الأعلى منزلة ورتبة الذي قرر الارتحال الى لبنان..للتعرف على مسيحييه وأسباب هجرتهم ، وعلى مسلميه الذين لم يسبق ان تفاعل معهم في تجربته المسكونية الطويلة في أميركا الشمالية واللاتينية على حد سواء.
ولأنها أشبه برحلة رعوية استكشافية، كانت الهجرة المسيحية سؤا لاً معلقاً، لا يرد عليه إلا بالتمني على المهاجرين العودة، لكي لا يقال مثلا ان تلك الظاهرة الخطرة على مستقبل لبنان، تكمن في اخفاق المسيحيين تحديداً في بناء دولة، بالاشتراك مع المسلمين بغض النظر عن مسؤولية كلا جناحي الوطن عن ذلك الاستنتاج. أما الكلام الذي ورد على لسان البابا نفسه عن التعايش المسيحي الإسلامي وضرورة صونه، فإنه يغفل حقيقة ان ذلك التعايش، ربما يكون اليوم في أحلى حالاته بالمقارنة مع الماضي الذي تجاوزه الجناحان، منذ زمن بعيد، وانغمسا معا في صراعات عابرة للطوائف على “ملح الأرض” ونشر الفساد على اختلاف انواعه.
لم يكن المنتظر من البابا تحديداً ان يكتفي بالدعوة الى كبح جماح الهجرة المسيحية (والإسلامية ايضاً) وكأنها ظاهرة طبيعية، بل ان يتقدم خطوة نحو حث الدولة اللبنانية والكنائس على الإعلان عن حالة تعبئة وطنية تتولاها الرئاسات والوزارات والمؤسسات لتوفير سبل عودة ضمان عودة المهاجرين، ومصالحتهم مع وطنهم الأول، بدل مطاردتهم في بلدان هجرتهم بالنزاعات السياسية المحلية، والقوانين الانتخابية الطاردة لهم. ولم يكن المتوقع من البابا ان يستنتج ان التعايش الإسلامي المسيحي بخير، بل ان يوصي بتطوير هذا التعايش الراسخ نسبياً، لبناء دولة مدنية عصرية، تحيد الكنيسة والجامع معا، وتمهد لتغيير وجوه ورموز الخراب الجاثم على أرض الوطن.
لا كلام في السياسة الآن، في ختام رحلة رعوية، عنوانها السلام والمغفرة، وهما أصل العقيدة ومغزاها.. على أمل ان يكمل البابا الرسالة باتخاذ خطوات إضافية نحو إرشاد لبنان واللبنانيين على دروب الخلاص، ولو اقتضى الامر دوراً سياسياً مباشراً يعوض الأدوار السلبية التي تقوم بها دول عظمى، او دول صديقة وشقيقة، ولم تطرق يوماً الى مهمة إقناع الطبقة السياسية المسيحية والمسلمة بالاعتزال، وفتح الباب امام الجيل الشاب الذي خصه البابا بالاهتمام، لكي يتولى مسؤولية درء الاخطار الداهمة.
حق الفاتيكان ألا يقوم بهذا الدور، لكن الهجرة المسيحية (والمسلمة) تهديد وجودي فعلا للبنان..يؤيد الزعم انه دولة فاشلة، او حتى وهمية، قامت في غفلة من الزمن، ويمكن ان تضيع في لحظة خاطفة.
