ف اجأ وزير العدل اللبناني، عادل نصّار، كلًّا من نائب رئيس الحكومة، طارق متري، والوفد السوري الزائر، عندما طرح، في ضوء المناقشات حول الاتفاقية القضائية المزمع عقدها بين لبنان وسوريا، ضرورة تزويد السلطات السورية الجديدة نظيرتها اللبنانية بكل ما تملكه من ملفات ومعلومات عن جرائم الاغتيال التي ارتُكبت بحق مجموعة واسعة من اللبنانيين، بدءًا بكمال جنبلاط وصولًا إلى لقمان سليم، وكذلك عن المفقودين اللبنانيين في سوريا، كما هي حال بطرس خوند.
فما كان جواب الجانب السوري على طرح وزير العدل اللبناني؟ في البداية، ساد الاستغراب، وبدا الارتباك واضحًا على وجوه رئيس الوفد وأعضائه.
بادر عادل نصّار إلى شرح الأسباب الموجبة لطلبه، وأوضح أنّه لا يهدف، بأي وجه من الوجوه، إلى خلق معادلة تنسف العمل المتقدّم لمصلحة الاتفاقية القضائية التي تسعى الحكومة السورية، برئاسة أحمد الشرع، من خلالها إلى استرداد الموقوفين في السجون اللبنانية، ولا سيّما أولئك الذين أوقفوا في لبنان بسبب انتمائهم أو تأييدهم للثورة على نظام بشار الأسد.
وقال نصّار للوفد إنّه، بغض النظر عن موقفه كلبناني عانى الأمرّين من نظام الأسد، شأنه شأن السوريين الذين ثاروا عليه ودفعوا أفدح الأثمان، فهو مؤتمن، كوزير للعدل، على أن يسعى جاهدًا لتوفير بيئة سليمة تمكّن المحاكم من العمل على تحقيق العدالة للضحايا وكشف الحقائق للبنانيين كافة. هذا التوضيح أراح الجانب السوري، فدخل في صلب الموضوع، وأفاد بأنّ النظام السوري المخلوع، وقبل فراره، أقدم على إحراق الكثير من الملفات والوثائق. وردًّا على استيضاح نصّار وشرحه لآليات الإثبات التي تتخطّى أحيانًا الوثائق الثابتة والملفات المكوّنة، قال الوفد السوري إنّ بإمكان السلطات البحث عن نسخ من الملفات في أماكن مختلفة، كما يمكنها الحصول على معطيات كثيرة من خلال شهود أحياء وموقوفين تابعين للنظام السابق، ناهيك عن القدرة على معرفة مصير القتلة الذين سبق أن فرّوا إلى سوريا بعد انكشاف أمرهم.
وتقرّر، في ضوء النقاش، التفكير في آلية تمكّن السلطات اللبنانية والسورية من التواصل لإرساء تعاون مثمر في هذا الصعيد.
ويتوافق مطلب الوزير عادل نصّار مع التجارب التاريخية التي مكّنت العدالة من التوصّل إلى الحقيقة في كثير من الملفات التي بقيت غامضة، كحالة ألمانيا الغربية مع الجرائم التي اقترفتها مخابرات ألمانيا الشرقية أو حلفاؤها أو المحميّون بها. فقبل سقوط جدار برلين بين الألمانيتين، لم يتمكّن قضاة ألمانيا الغربية من الحصول على أدلّة تكشف الحقائق، فبقيت كل الجرائم مقيدة ضد مجهول. لكن الأمر اختلف بعد سقوط النظام الموالي للاتحاد السوفياتي، إذ تمكّن القضاء في ألمانيا من الوصول إلى ملفات لم تُتلف، وكانت بداية الطريق نحو وثائق جديدة وشهود مهمّين.
وفي انتظار ما ستؤول إليه الاتصالات اللاحقة في هذا الصعيد المهم جدًا لشرائح واسعة من اللبنانيين، والذي من شأنه أن يكشف كل الحقائق “المحظورة”، وافق لبنان، مبدئيًّا، وبموجب ما أُنجز على مستوى الاتفاقية القضائية بين البلدين، على تسليم سوريا جميع الموقوفين من تابعيّتها، باستثناء نوعين منهم: النوع الأوّل متّهم بجرائم قتل، والنوع الثاني متّهم بجرائم سرقة واختلاس، ولا يمكن إرساله إلى سوريا طالما لم يتم التعويض على أصحاب الحقوق.
وتقول السلطات السورية إنّها معنيّة، بادئ ذي بدء، بهؤلاء الذين أوقفوا بسبب تأييدهم للثورة السورية، وتمّ على هذا الأساس توجيه تهم إليهم، كالمساس بأمن الدولة أو الانتماء إلى تنظيمات إرهابية.
اذًا، خضم هذا المسار القضائي المعقّد، تتجلّى رغبة سوريا الواضحة في استرداد مواطنيها الموقوفين في السجون اللبنانية، خصوصًا أولئك الذين ارتبط توقيفهم بمواقف سياسية أو تأييد للثورة ضد النظام السابق. وفي المقابل، يبرز موقف وزير العدل اللبناني، عادل نصّار، كخطوة جريئة نحو إسقاط الستار الحديدي الذي حال، لعقود، دون كشف الحقائق ومحاسبة المجرمين الذين أفلتوا من العدالة تحت غطاء سياسي وأمني كثيف.
إنّ هذا التلاقي بين حق الدولة في استعادة مواطنيها وحق الضحايا في كشف الحقيقة وتحقيق العدالة، قد يشكّل نقطة تحوّل تاريخية في العلاقات القضائية بين البلدين، إذا ما أُحسن البناء عليه بعيدًا عن الحسابات الضيقة، وبما يخدم العدالة والإنصاف، ويعيد الاعتبار للضحايا وذويهم. نشر في “النهار”