سيريا داركت- عائشة صبري
بعيداً عن الاحتفاء بالعودة والاحتفالات في الساحات بسقوط النظام، يشعر العديد من اللاجئين السوريين العائدين إلى سوريا بالغربة في موطنهم الأصلي، ويحاولون الاندماج فيه، كما فعلوا في بلدان لجوئهم عندما وصلوا إليها.
في غضون تسعة أشهر بعد سقوط نظام الأسد، في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، عاد مليون لاجئ سوري إلى بلادهم، بحسب إحصائيات مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، غالبيتهم عادوا من تركيا، التي تحتضن العدد الأكبر من السوريين، إذ عاد منها نحو 550 ألف سورياً حتى تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، بحسب تصريحات وزير الداخلية التركي، علي يرلي قايا.
إلى جانب “التحديات الهائلة” المرتبطة بالبنية التحتية المتضررة، والخدمات الأساسية الضعيفة، ونقص فرص العمل، التي تحدّ من عودة السوريين إلى بلادهم، فإن ضعف الخدمات الاجتماعية والانشطة الثقافية والرياضية، التي اعتاد عليها أبناء العائدين تجعل من الحياة في بلدهم الأم أكثر صعوبة، كما هو الحال مع عروب جعفر، 14 عاماً، التي كانت تقيم في إسطنبول التركية قبل عودتها مع عائلتها واستقرارها في دمشق.
“كنت أشارك في الكثير من الفعاليات والمؤتمرات، بما فيها أنشطة تابعة للأمم المتحدة، استطعتُ خلالها كسب العديد من الصداقات والعلاقات الاجتماعية في اسطنبول”، لكن بعودتها في أيلول/ سبتمبر الماضي، خسرت كل علاقاتها السابقة، كما قالت لـ”سوريا على طول”.
وأضافت: “انتقلت من مكان مليء بالعلاقات، كنت فيه نشيطة جداً، إلى مكان لا أجد من يشاركني الأفكار والاهتمامات نفسها”، لذا لا يقل “التأقلم الثقافي” في الوطن الأصلي للعائدين عن التأقلم على تردي الخدمات، من وجهة نظرها.
ويعدّ حاجز اللغة أحد الأسباب التي تزيد من صعوبة اندماج أطفال اللاجئين العائدين إلى بلادهم، إذ تلقت جعفر تعليمها في مدارس تركيا وبلغتها، التي وصلت إليها في سنّ مبكرة، لذا “أجد صعوبة في فهم بعض مصطلحات اللغة العربية ومفرداتها في المناهج الدراسية”، قالت جعفر، التي فضّلت الرد على أسئلة المقابلة بالتركية ومن ثم ترجمتها للعربية.
أشار والدها عبد الرحمن إلى أن اللغة قد تكون “عائقاً كبيراً” أمام انخراط الأطفال العائدين في التعليم وأيضاً في الاندماج بالمجتمع السوري، لافتاً إلى أن “ضعف استيعاب الطالب للدرس يترك أثراً نفسياً لدى الطالب”، ناهيك عن أن “تغيير نمط المعيشة يؤثر على تأقلم الأطفال وعائلاتهم مع الحياة الجديدة”.
وكذل ك “السكن في إسطنبول ضمن تجمع سكني يوفر الحماية والخدمات، بينما في دمشق عليك تأمين كل شيء بنفسك”، هذا تفصيل لا يمكن تجاوزه، ومن شأنه أن يؤثر على العائدين، بحسب عبد الرحمن.
شعور بالندم!
في تموز/ يوليو الماضي، عادت سارة فاضل، 16 عاماً، وشقيقها زياد الذي يصغرها بعام واحد، مع عائلتهما، إلى مدينة القصير بريف حمص، بعد رحلة لجوء في مرسين التركية استمرت منذ عام 2014.
صُدمت سارة وزياد بواقع مختلف، وحتى الآن يجدا نفسيهما عاجزين عن الاندماج في المجتمع الجديد، كما قالا لـ”سوريا على طول”، ناهيك عن صعوبة التأقلم مع الواقع التعليمي في سوريا، الذي يختلف كلياً عن تركيا.
وصلت سارة وزياد إلى تركيا بأعمار صغيرة، لذا لم يجدا صعوبة في الاندماج بالمجتمع التركي، لدرجة “أننا عشنا في تركيا ونحن نعتبرها بلدنا”، قالت سارة.
هناك تفاصيل لم يدرك زياد أهميتها سابقاً، أبسطها تكوين الصداقات، إذ أنشأ في تركيا شبكة واسعة من الأصدقاء، لكنها هُدمت بعودته، ويراوده إحساس بأن “الجميع غريب عنّا هنا”، كما قال.
وفي بلد استنزفتها الحرب خلال أكثر من 14 عاماً، ودمّرت آلة الأسد العسكرية الكثير من مرافقها العامة، بما في ذلك المنشآت التعليمية، وجد زياد نفسه في غرفة صفيّة تضم 67 طالباً، يجلس كل أربعة طلاب في مقعد واحد، وهذا غير مألوف بالنسبة له، على حد قوله.
كان والدهما، فاضل فاضل، يعمل في قطاع المقاولات وكانت حياته مستقرة في مرسين، لكنه قرر العودة إلى سوريا للمشاركة في إعادة إعمارها، لكن فوجئ بتدهور الخدمات، بما في ذلك القطاع الصحي في مدينة القصير خصوصاً، وقد يكون ذلك في كل البلاد، حيث “أوضاع الأرياف أشد سوءاً من المدن”، كما قال لـ”سوريا على طول”.
والدة فاضل مريضة سرطان وكانت تتلقى علاجها مجاناً في تركيا، لكن نظراً لسوء القطاع وعدم توفر العلاج في مستشفى حكومي، اضطر استكمال علاج والدته على نفقته الخاصة، وفقاً له.
وكذلك، تواجه عائلة صبحي اللاذقاني، الحاصل على الجنسية التركية، العديد من التحديات أثناء محاولتها التأقلم مع الواقع المعيشي الجديد في إدلب، بعد عودتها من ولاية هاتاي التركية في نهاية آب/ أغسطس الماضي.
يواصل اللاذقاني عمله كمحاسب في منظمة طبية في هاتاي التركية، ولكنه قرر إعادة عائلته إلى إدلب، رغم إدراكه لحجم الصعوبات التي تواجهها في الأشهر الأولى، لقناعته بأن “الاستقرار الفعلي في البلد”.
حاول اللاذقاني أن يخفف على بناته الخمس بتسجيلهنّ في مدارس خاصة بمحافظة إدلب، لما توفره من خدمات أفضل وفرص اندماج أسهل مقارنة بالمدارس الحكومية، كما قال لـ”سوريا على طول”، ومع ذلك فإن ضعف لغتهنّ العربية كان عائقاً إضافياً أمام تأقلمهنّ على الوضع الجديد.
قالت نور، 15 عاماً، وهي أكبرهنّ سناً، “الحياة في تركيا أفضل، ونتمنى أن نعود إليها”.
وفي هذا السياق، أشارت الباحثة المجتمعية كندة حواصلي إلى “اختلاف الثقافة والقوانين بين المجتمعات، فالقادم إلى سوريا اعتاد الالتزام بالقوانين مثل السير والنظافة وعدم إزعاج الجيران بالأصوات المرتفعة”، بينما في سوريا حيث العلاقات العائلية والاجتماعية المفتوحة، يشعر العائدون بـ”فوضى كبيرة”، وقد يؤدي ذلك إلى “خلق حساسيات مع المجتمع المحلي تصل إلى حد التنمر على العائد من الخارج”، كما أوضحت لـ”سوريا على طول”.
عودة ترافقها صعوبات
في عام 2021، وصل المحامي بشر الحاوي إلى فرنسا، بحثاً عن “وطن بديل”، بعد إقامته في تركيا لعدة سنوات، وبعد سقوط نظام الأسد “لم يعد هناك مبرراً للبقاء”، فعاد إلى مدينته حلب رفقة زوجته وطفله، في أيار/ مايو الماضي، كما قال لـ”سوريا على طول”.
بعد عودته، شعر الحاوي بوجود “فجوة” بين سكان حلب واللاجئين العائدين إليها، بسبب “اختلاف طريقة التفكير”، ويحاول التعايش مع ظروف البلاد، التي تعاني من تدهور الخدمات والبيروقراطية وسوء التنظيم الإداري، متوقعاً تقلّص هذه الفجوة تدريجياً مع نهضة البلاد وتعافيها.
ومثله، عاد ياسر الشامي إلى مدينة دوما بريف دمشق، المدينة التي شهدت حصاراً ودماراً كبيرين بين عامي 2013 و2018، وكان أحد المحاصرين فيها، قبل أن يخرج في قوافل التهجير إلى الشمال السوري في ربيع 2018، ومنها إلى تركيا، التي غادرها إلى فرنسا عام 2021.
“عدت حتى أشارك في إعادة بناء بلدي”، قال الشامي لـ”سوريا على طول”، رغم إدراكه مسبقاً أن هناك العديد من التحديات التي تنتظره وعائلته عند عودته إلى البلد، التي رفض مغادرتها في أسوأ الظروف.
منذ عودته، في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، يحاول الشامي، وهو أب لأربعة أطفال، إجراء العديد من المعاملات الإدارية، سواء المرتبطة بتسجيل أطفاله في المدارس أو المرتبطة بتسوية أوضاعه، ليصطدم بتعقيد المعاملات الإدارية، قائلاً: “يميل الموظف السوري إلى تشديد الإجراء على عكس التسهيلات في فرنسا”.
برعَ ولداه، 13 عاماً و10 أعوام، خلال إقامتهما في فرنسا بكرة القدم، حيث “الملاعب المجهزة وأماكن التدريب المهيأة لممارسة الرياضة”، ليعودا إلى مدينة دُمرّت مرافقها الرياضية بالكامل بفعل القصف الروسي.
لذا، يجد الشامي وأمثاله أنفسهم مضطرين إلى البحث عن بدائل تعوض أطفالهم شيئاً من الخدمات التي فقدوها، من أجل مساعدتهم على التعايش مع واقع موطنهم الأصلي، متأملين أن تتحسن ظروف البلاد، وأن تلعب الدولة دوراً في تهيئة الخدمات، لأن ذلك من شأنه أن يزيد من أعداد العائدين.
يواجه العديد من السوريين العائدين إلى بلادهم مشكلات قانونية وأمنية فور وصولهم، أبرزها صدور مذكرات بحث أو توقيف بحقهم، بتهم “كيدية” تتعلق بمشاركتهم في الثورة، كما قال المحامي مجد الطباع، الذي استقر في دمشق عائداً من إسطنبول.
تلقى الطباع مذكرة توقيف صدرت بحقه عام 2024، لكنه عمل على إغلاق الدعوى بعد إثبات وجوده خارج البلاد حين صدورها، كما قال لـ”سوريا على طول”، مشيراً إلى أن العديد من العائدين يتسلمون في المعابر الحدودية أو المطارات أوراق مراجعة لأجهزة أمنية.
وكذلك، لا تعترف الحكومة السورية بالزواج الموثق بالأوراق التركية، بحسب الطباع، لذا يتعين على العائدين تثبيت وقائع الأحوال المدنية فور عودتهم، وهذا يتطلب ترجمة أوراق وتصديقها حتى تصبح معتمدة في دوائر الدولة.
وعليه، لا يتوقع الناشط الإعلامي، خالد رعد، المقيم في هولندا، عودة كبيرة للسوريين من أوروبا في ظل الأوضاع الراهنة، متوقعاً أن تقتصر العودة عل ى أولئك “الذين لم يحصلوا على فرص عمل أو لم يستطيعوا الاندماج بالمجتمعات الأوروبية”، أو أن يكون لدى العائد أموالاً أو استثمارات “يمكن توظيفها في بلده”، كما قال لـ”سوريا على طول”.
لكن، قد تجبر الدول المضيفة اللاجئين على العودة عبر سنّ القوانين واتخاذ الإجراءات ضدهم، إذ تهدف النمسا إلى البدء بتنفيذ سياسة جديدة تهدف إلى سحب حق اللجوء من أكثر من ثمانية آلاف سوري، كما صرّح وزير الداخلية النمساوي، غيرهارد كارنر، في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
ونقلت صحيفة “بيلد الألمانية” عن وزير الداخلية الألماني، ألكسندر دوبريندت، أن بلاده تسعى إلى توقيع اتفاق رسمي مع الحكومة السورية الجديدة لتنظيم عمليات الترحيل.
التدريب النفسي في عملية الإدماج
إن فكرة اندماج الإنسان مع أيّ مجتمع، بما في ذلك مجتمعه الأصلي، تستلزم طاقة نفسية، ومع كلّ تغيّر، يحتاج الأمر إلى طاقة أكبر، كما قال الطبيب النفسي المقيم في فرنسا، أحمد العسيلي، لـ”سوريا على طول”.
“واجهنا هذه المشكلات بكثرة مع موجات اللجوء السوري إلى الغرب ودول الجوار، ونواجهها اليوم بعد عودة البعض إلى البلاد”، أضاف العسيلي، لافتاً إلى أن المشكلات الأكبر تخصّ فئة الأطفال الذين وُلدوا في تلك الدول أو تَشكّل وعيهم فيها، والتحقوا بمدارسها، لأن “الأطفال يتمسكون حينها بلغة دراستهم ورفاقهم، وتتعمّق تلك المشكلات لدى الفئة التي يتراوح عمرها الآن بين 12 و20 عاماً”.
وأوضح العسيلي أن سوريا غير معتادة على هذا النوع من الإدماج، لذا تعتمد ظروفه على الشروط الاجتماعية والاقتصادية والوضع الأمني لكلّ عائلة، وعلى المرونة النفسية لدى كلّ فرد.
وأشار إلى أن أبرز محفّزات إعادة الإدماج هي السهولة الإدارية في التعامل الحكومي مع القادمين الجدد إلى بلادهم، وتوفير فرص عمل مناسبة لهم، وهي أمور صعبة في الظروف الحالية.
وفي هذا الإطار، ينبغي أيضاً تدريب المعلمين في المدارس السورية على “كيفية التعامل مع الحالة النفسية لطلابهم”، ويمكن تنفيذ هذه الخطوة “عبر دورات سريعة أو برامج تدريبية عبر الإنترنت”، بحسب العسيلي، مشدداً على أهميتها في “إنجاح عملية الدمج داخل المدارس”.
حالياً، يتوفر اختصاصيون نفسيون مستعدون للتطوع مع الكوادر التعليمية عبر منصات رقمية، لكن هذا لا يكفي، إذ لا بد من “توفير منصات فعالة تتيح تنفيذ هذا الجهد التربوي والنفسي بشكل منتظم ومستدام”، وفقاً له.
وتتفق الباحثة الاجتماعية كندة حواصلي مع العسيلي، لذا “يتوجب على وزارة التربية تدريب كوادرها التدريسية” على استيعاب الطلبة العائدين والتعامل معهم.
وفي الوقت ذاته، يتعين على الحكومة السورية “تشكيل فريق متخصص يدرس مشكلات العائدين لتذليلها، خاصة ما يتعلق بمصادرة الممتلكات وصدور أحكام قضائية بحقهم من قبل حكومة الأسد، وإنشاء خطة لإدماجهم”، أضافت حواصلي، مشيرة إلى أن العديد من المشكلات قد يكون أساسها عائلي، نتيجة “سكن العائلات العائدة في منازل الأهل”.
ورغم كل الظروف التي تواجه العائدين، يشعرون بـ”راحة وطمأنينة لم يجدوها في بلاد اللجوء، ويعود ذلك إلى شعورهم بالانتماء للوطن”، بحسب حواصلي.
يعيش زياد وسارة حالة تيه بين ذاكرة الخارج وواقع الداخل، ومع غياب سياسات حكومية واضحة ترمي إلى إدماجهم، تبدو رحلة العودة إلى سوريا، بالنسبة لكثير من المغتربين، بداية غربة جديدة داخل حدود الوطن.
