معاريف- عميت ياغور
إن الاتفاق المكتوب يحدد، بطبيعته، القوانين والأعراف المتبعة بين الدول. وغالباً ما تفرض هذه القوانين والأعراف قيوداً وضوابط على استخدام القوة العسكرية، وتنقل منظومة العلاقات إلى مسارات من التعاون المدني تهدف إلى خلق فرص جديدة. إن توقيع اتفاق أمني بحت [مع سورية] يعني فرض قيود رسمية على إسرائيل (بدعم أميركي)، في حين يختفي من الخطاب العام جانب الفرص، أي الفائدة الإسرائيلية من ذلك، التي عادةً ما تكون موجودة في الاتفاقات المدنية والتطبيع.
زار الرئيس السوري أحمد الشرع الولايات المتحدة والتقى الرئيس الأميركي في البيت الأبيض، وعلى الرغم من التغطية الإعلامية المبالَغ فيها، فإنه من الصواب التحفظ عن تفسير الحدث: فالرئيس ترامب، حسبما هو معروف، يحب الظهور في صور مشتركة مع زعماء أجانب.
وفي الواقع، دخل الشرع إلى البيت الأبيض من مدخل جانبي من دون سجادة حمراء، وكانت الجلسة مغلقة أمام وسائل الإعلام، بعكس العادة المتّبعة في عهد ترامب. ترى الولايات المتحدة في سورية محوراً جغرافياً ونظرياً مهماً في البنية الإقليمية الجديدة التي تسعى لتشكيلها، لكن من الواضح أن لدى الجميع مشكلة مع الرجل بحد ذاته.
فأحمد الشرع (المعروف أيضاً بالجولاني)، القي ادي السابق في القاعدة في العراق والسجين السابق لدى الأميركيين، تبين أنه استراتيجي بارع، لكن أهدافه غير واضحة، ولا يعلم أحد ما إذا تخلى حقاً عن نهج الإرهاب. حتى بعد انضمامه إلى التحالف ضد “داعش”، لم يوضح نيته، إذ لا يزال رجاله “يذبحون” الأقليات في سورية تحت رايات جهادية متطرفة.
الآن، تحاول الولايات المتحدة “السَير بين النقاط”: التقرب من الشرع، وفي الوقت عينه، اختبار نياته الحقيقية؛ حتى الصور التي يظهر فيها، وهو يلعب كرة السلة مع كبار قادة “القيادة المركزية الأميركية” (أعداؤه السابقون)، هي محاولة أميركية واضحة لاستمالته وإيصال رسالة إلى الرأي العام.
أمّا بالنسبة إلى دمشق، فالرغبة في التقدم مفهومة: المصلحة العليا هي “تبييض صورة النظام”، أي نيل الشرعية الدولية التي تسمح بإعادة إعمار الدولة. ولتحقيق ذلك، لا بدّ من رفع العقوبات وجذب الاستثمارات الضخمة، لكن العقبة الرئيسة هي إسرائيل، التي تعارض اعترافاً أميركياً واسع النطاق بالنظام السوري الجديد، وخصوصاً أنه تحت الوصاية التركية.
الاتفاق الأمني المقترح
مؤخراً، عاد إلى الواجهة الحديث عن “الاتفاق الأمني” بين إسرائيل وسورية، وهو خطوة تؤكد حدوث تقدُّمٍ تدريجي وبناءٍ للثقة على مراحل، وصولاً إلى التطبيع ال كامل. لقد تحدث الشرع نفسه، علناً، عن هذا المبدأ، لكن بينما المصالح الأميركية والسورية واضحة، فإن استعداد إسرائيل لإظهار الانفتاح على اتفاق أمني فقط - من دون الجانب المدني - يثير تساؤلات كثيرة.
سورية: دولة واحدة، أم فسيفساء خطِرة؟
لم تكن سورية يوماً كياناً موحداً طبيعياً. واليوم، بعد الحرب، أصبحت مقسمة إلى أطر دينية وعرقية مختلفة، مسيحية، مسلمة، كردية، درزية – على الأقل، تشكل إحداها (الدرزية) حاجزاً بين حدود إسرائيل وقوات النظام، وأيّ اتفاق يوقَّع اليوم مع النظام يعني منح الشرعية لدولة سنّية متشددة تحولت فعلياً إلى دولة تطبّق الشريعة.
وتتألف قوات الأمن السورية، في معظمها، من عناصر “هيئة تحرير الشام” وميليشيات إسلامية كانت تحارب الأسد، وما يجمع بينها أيديولوجيا جهادية تدعو إلى قتال كلّ مَن لا يعتنق الإسلام – بما في ذلك إسرائيل، علاوةً على ذلك، يخضع النظام الجديد مباشرةً لوصاية تركيا، التي وقّعت معه مؤخراً اتفاقات دفاع مشتركة، وهي تقدّم للجيش السوري الجديد الاستشارات والمنظومات والأسلحة.
الاتفاق الأمني ربح، أم فخ؟
في الوضع الراهن، تتمتع إسرائيل بحُرية عمل عسكرية كاملة في سورية، بينما يضطر نظام الشرع إلى “المشي على البيض”، سعياً وراء الشرعية الدولية؛ أمّا الاتفاق الأمني وحده، فسيقيّد إسرائيل من دون أن يمنحها شيئاً في المقابل.
التاريخ يعلمنا: كان هناك حالات مماثلة في الماضي، حين أدى الضغط الأميركي إلى خطوات أضرّت بإسرائيل؛ على سبيل المثال، مطلب واشنطن بشأن إجراء انتخابات حرة في مناطق السلطة الفلسطينية في سنة 2006، والتي انتهت بوصول “حماس” إلى الحكم في غزة؛ حتى الاتفاق الأمني الأخير مع لبنان، الذي تجاهل المكونات الاقتصادية لحزب الله، أثبت أن الترتيبات الأمنية وحدها لا تحلّ المشكلات، بل تؤجلها.
فرصة استراتيجية، بشرط التطبيع
إن أي نظام إقليمي جديد، من المهم أن يشمل سورية التي تشكل جسراً برياً حيوياً بين إيران والعراق وشرق آسيا من جهة، والبحر المتوسط من جهة أُخرى، لكن السؤال هو كيف، ومع مَن يجب التوقيع، وما الفائدة، وهل ستُضعف هذه الخطوة تركيا، أم ستقويها؟
الآن، تمتلك إسرائيل رافعة ضغط كبيرة “ختم الموافقة الإسرائيلية” الذي تحتاج إليه سورية للحصول على الشرعية الدولية، وهذه الفرصة نادرة للتغيير.
لكن أيّ اتفاق يتضمن عناصر أمنية فقط، من دون تطبيع، ومن دون انضمام سورية إلى اتفاقيات أبراهام، يعني تأجيل الحسم بشأن هوية “سورية الجديدة” إلى أجَل غير معروف.
الآن، تقف إس رائيل أمام خيارين:
الاستمرار في الوضع القائم الذي يمنحها حرية عمل وردعاً قوياً؛ قيادة مسار سياسي يشمل تطبيعاً وتسوية مدنية - سياسية تعيد رسم ملامح سورية الجديدة، وتحدّ من النفوذ التركي - الجهادي. وما دامت سورية بحاجة إلى إعادة الإعمار، وإلى الشرعية التي تمنحها إسرائيل، هذا هو وقت التحرك، فالاتفاق الأمني وحده سيُضعف الردع، ويمنح الشرعية للجهاديين، ويُبقي على نتائج اتفاقات سايكس - بيكو القديمة.
قبل اتخاذ أي قرار، يجب التفكير مجدداً في الفائدة الحقيقية من الاتفاق الأمني فقط، وإعادة التفكير في المسار من جديد.
