نير حسون- هآرتس
بعيون غير نقدية، تبدو مؤسسة GHF (مؤسسة غزة الإنسانية) كأنها قصة نجاح مبهرة. فبعد أن أعلنت هذا الأسبوع (يوم الاثنين) أنها وزّعت “أكثر من 85 مليون وجبة”، وأنه “لم تقع أيّ حوادث في ذلك اليوم،” بدا كأن الصعوبات والنقد الذي وُجِّه إليها في بداياتها كانا مجرد مخاض طبيعي. لكن وراء هذه المعادلة الناجحة، ظاهرياً، هناك معطيات غائبة وصورة أوسع لا يمكن تجاهُلها.
فإذا كان عدد سكان قطاع غزة نحو2.1 مليون نسمة، وكل فرد بحاجة إلى 3 وجبات يومياً، وخلال 56 يوماً من النشاط، كان من المفترض أن توزع المؤسسة نحو 353 مليون وجبة. لكن يتضح بعملية حسابية بسيطة أن ما تم توزيعه لا يغطي سوى جزء ضئيل جداً من الحاجة الفعلية، حتى لو تم توزيع الطعام بعدالة كاملة واستُخدم بكفاءة تامة، يكشف هذا الفارق الهائل أحد أوجه “رياضيات التجويع”.
منذ نهاية الأسبوع الماضي، تصاعدت حدة الجوع في القطاع: فالمستشفيات والمنظمات الإنسانية والصحافيون والسكان أنفسهم، يبلّغون بشأن نقص حاد في الغذاء، أسوأ من الأشهر السابقة. فقط يوم أمس (الثلاثاء)، أعلنت وزارة الصحة في غزة خبر وفاة15 شخصاً خلال 24 ساعة بسبب الجوع وسوء التغذية، بينهم 4 أطفال. ومنذ بداية الحرب، توفي 101 شخصاً بسبب الجوع، بينهم 80 طفلاً. كذلك سُجلت عشرات الوفيات خلال الأيام الأخيرة.
الواقع الصادم خلف الإحصاءات
لكن الجوع في غزة لا يظهر فقط بالأرقام، بل بالصور، بالفيديوهات، وبالقصص المفجعة: أطفال رضّع نحيلون، وبطونهم منتفخة؛ رجل مسنّ يأكل أوراق التين؛ رجل طرد زوجته لأنها أكلت من حصته من الخبز؛ أمهات يعجزن عن إرضاع أطفالهن. قالت امرأة تُدعى سلوى، من حي التفاح، لوكالة “القدس”: “لم آكل شيئاً منذ يومين. جسدي لا يُنتج الحليب، وطفلي يبكي حتى ينام. نطعمه ماء الأرز… لكنه يعرف الحقيقة من طعمه الفارغ.” الى جانب سيل التقارير بشأن انتشار المجاعة، تواصل مؤسسة GHF إصدار التقارير الصحافية الاحتفالية بشأن توزيع كميات كبيرة من المواد الغذائية، كما لو كنا في عالمين متوازيَين غريبَين عن بعضهما البعض. ولكي نفهم العلاقات المتبادلة بين هذين العالمَين، يجب الدخول في الأرقام والوقائع بعمق. استناداً إلى المؤسسة، يحتوي كل صندوق مساعدة على 57.75 وجبة غذائية، (الحساب هو 3 وجبات غذائية للعائلة يومياً، مضروباً بحاجات أسرة مكونة من 5 أشخاص، مضروباً بـ3.5 أيام)، لكن هذا الرقم يطرح تساؤلات.
على سبيل المثال، في ظل الظروف المعيشية في غزة، هل من الممكن فعلاً إعداد 60 وجبة من حصة غذاء تزن ما بين 16 و18 كيلوغراماً من الطعام في اليوم؟ يختلف تكوين الحصص الغذائية، لكن يمكن أن تجد فيها: 4 كلغ من الدقيق، و3 كلغ من المعكرونة، ومرطباناً من الطحينة، و4 كلغ من الحمص والعدس، وزجاجة زيت، وكلغ من الملح، و2 كلغ من الأرز. من الناحية النظرية، من المفترض أن تكفي هذه الكميات من المواد الغذائية، لكن الطهي في القطاع مهمة مستحيلة في الوضع الحالي، حيث لا يوجد تقريباً مطبخ يعمل، أو موقد، أو غاز للطهي، فضلاً عن النقص الحاد في المياه النظيفة، وهي أمر ضروري، وفي أواني الطبخ، وكذلك القدرة على الاحتفاظ بالطعام وتخزينه بضعة أيام في ظل الفرار والنزوح، مراراً وتكراراً.
هناك سؤال آخر يطرح نفسه: هل تصل مساعدات GHF الغذائية فعلاً إلى مَن هم بأمسّ الحاجة إليها؟ منذ بدأت العمل، قبل نحو شهرين، تقوم المؤسسة بتوزيع مساعداتها من خلال أربعة مراكز توزيع فقط؛ هذه المراكز تُفتح يومياً لفترة قصيرة جداً - غالباً لا تتجاوز الـ 15 دقيقة - أو حتى نفاد الكمية المتوفرة من الطعام، ومن دون جدول زمني معروف مسبقاً. هذا المزيج من الجوع الشديد من جهة، وانعدام اليقين بشأن موعد فتح المراكز من جهة أُخرى، خلق وضعاً مأساوياً يتكرر يومياً، إذ يخاطر عشرات الآلاف بحياتهم، ويتجمعون حول المراكز طوال ساعات النهار على أمل الحصول على القليل من الطعام لعائلاتهم، وينام بعضهم على الرمال في مناطق الخطر المحيطة بمراكز التوزيع ليكونوا الأوائل في الصف عند موعد الفتح.
هذا الضغط الهائل حوّل الطريق إلى مراكز للتوزيع، والمراكز نفسها، إلى مصائد موت؛ كلّ يوم، يُقتل عشرات الأشخاص، معظمهم برصاص جنود الجيش الإسرائيلي الذين يحاولون تفريق الحشود بإطلاق الرصاص الحي، حتى الآن، قُتل أكثر من ألف فلسطيني بهذه الطريقة في مراكز المساعدة، أو في طريقهم إليها، أو بالقرب من الشاحنات التي تنقل الطعام، أمّا مَن حالفهم الحظ وبقوا في قيد الحياة ودخلوا إلى المراكز، فإنهم يندفعون نحو أكوام الصناديق، ويأخذون منها ما يستطيعون من دون أي نظام.
بعكس توزيع الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية، الذي يتم بناءً على تسجيل منظّم، ومن خلال المئات من نقاط التوزيع المنتشرة، لا يوجد في مراكز GHF قانون، ولا نظام؛ فكلّ فرد يأخذ ما يستطيع ويحاول النجاة. ولهذا السبب، فإن الأشخاص الأكثر حاجةً إلى الطعام - مثل الأطفال الصغار والنساء والمرضى وكبار السن - يبقون بلا شيء، وأيديهم خالية.
لكن هناك تفاوتاً حتى بين الذين يحصلون على المساعدات، حسبما روى شخص كان في قطاع غزة حتى وقت قريب لـ”هآرتس”، وبحسب قوله، فإن مجموعات منظمة من الشبان ترسل أعضاءها إلى مناطق التوزيع بقصد تحقيق الربح. وأضاف: “إنهم يمزقون الصناديق، ويجمعون المواد الأغلى ثمناً، مثل الجبنة والزيت، وربما التونة - ثم يركضون إلى سيارة متوقفة على مقربة من المركز، ويقومون بتحميلها”. وتابع: “في طريق عودتهم إلى مخيمات النزوح، يبيعون هذه المنتوجات مباشرةً من السيارة، وكلما ابتعدوا عن مواقع التوزيع، كلما ارتفعت الأسعار”.
لكن حتى عندما تصل المساعدات الغذائية إلى الفئات الأكثر حاجةً، فإن كثيراً منها لا يفيدهم فعلياً، والسبب أن المواد الغذائية التي توزعها مؤسسة GHF تفتقر إلى التنوع الكافي. على سبيل المثال، لا توجد أغذية مخصصة للمرضى الذين يعانون جرّاء حساسية الغلوتين، ومرضى القلب، أو مرضى الكلى. وهناك أيضاً نقص حاد في تركيبة الغذاء الخاصة بالرضّع [الفورمولا]، ويُعتبر غيابه من أخطر وأشد أوجه الأزمة، وربما الأكثر فتكاً. هذه التركيبة الغذائية مهمة لإنقاذ حياة الأطفال الرضّع في غزة، لأن الأمهات اللواتي يعانين، هنّ أنفسهن، جرّاء سوء التغذية الحاد، غير قادرات على الإرضاع الطبيعي.
فيما يتعلق بهذه القضية، هناك تناقُض بين البيانات التي تنشرها قيادة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق، وبين الواقع على الأرض. ووفقاً لِما نشره “المنسق”، تم إدخال 2500 طن من الحليب الصناعي (الفورمولا) والأغذية الغنية للأطفال إلى قطاع غزة خلال الشهرين الماضيَين، إلّا إن لمصطلح “تم إدخالها” عدة تفسيرات.
تؤكد المنظمات الإنسانية العاملة في القطاع أن جزءاً كبيراً من المواد الغذائية المتجهة نحو القطاع عالق فعلياً في الجانب الفلسطيني من المعبر، لأن الجيش الإسرائيلي يمنع حركة الشاحنات. وفي أحيان أُخرى، تدخل الشاحنات إلى القطاع، لكنها تتعرض للنهب في الطريق إلى مستودعات التوزيع. في أي حال، إن الفوضى التي سبّبتها الحرب، والنزوح المتكرر للسكان، وانهيار النظام الصحي، أمور كلها تمنع وصول الغذاء إلى الأطفال الأكثر حاجةً إليه، ويسلبهم فرصتهم في البقاء في قيد الحياة.
هذه الكارثة كانت متوقعة. لقد حذّر خبراء التغذية وخبراء توزيع المساعدات الإنسانية الحكومة الإسرائيلية من هذا السيناريو تحديداً. ومع ذلك، وعلى الرغم من وفاة الأطفال جوعاً، والكبار الذين يتضورون جرّاء الجوع، والانهيار التام لبرنامج التغذية الذي تم تصوُّره هنا، لا يبدو كأن هناك أيّ شعور بالإلحاح لدى أيّ جهة في النظام الإسرائيلي.
هذا ينطبق أيضاً على ما يجري في المحكمة العليا في القدس. ففي 18 أيار/مايو، قدمت أربع منظمات حقوقية التماساً للمحكمة العليا (بعد رفض التماس سابق في هذا الشأن)، مُطالبةً بالسماح بإدخال الطعام إلى قطاع غزة من دون قيود. ومنذ ذلك الحين، قدمت النيابة العامة عشرة طلبات لتأجيل الرد على الالتماس. الطلب الأخير قدّمه المحاميان يوناتان برمان ويوناتان سيتون من قسم الالتماسات في النيابة العامة، ووافق القاضي يوسف إيلرون اليوم على هذا الطلب، كما وافق على الطلبات التسعة التي سبقته.