تستحق إيران التي أنشأت حزب الله ومولته وسلّحته أكثر من بقية حركات المقاومة العربية، وأقل بقليل مما قدمت للنظام الاسدي المنقرض في سوريا، والتي تتعرض اليوم لحملة تدمير أميركية-إسرا ئيلية ضارية، قد تعيدها الى عهود ما قبل الثورة الإسلامية في العام 1979، وربما الى ما قبل “العصر الشاهنشاهي” التليد، بياناً أقوى وأعمق وأوضح، من ذاك الذي أصدره الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم، حيث خانته اللغة، وفارقه الموقف، فأثار الشك، ولم يخمد الجدل.
تستحق إيران من الحزب وأمينه العام تحديداً، أكثر من بيان مؤلف من 487 كلمة بما فيها العنوان والتاريخ الميلادي والهجري، والآية 173 المنقولة من سورة آل عمران، أذيع في اليوم السابع على بداية أعنف حملة عسكرية تتعرض لها إيران منذ حربها مع عراق صدام حسين في ثمانينات القرن الماضي. ليست الأسباب الأمنية مبرراً لانتظار أسبوع على الحرب، ولا ثلاثة أيام، على التهديد العلني الفظ الذي وجهه كبار المسؤولين الاميركيين والإسرائيليين الى المرشد الإيراني علي خامنئي بالقتل، لكي يهب الشيخ نعيم، مناديا الامة بالوقوف مع المرجع والشعب في وجه تلك الغطرسة التي لم يسبق لها مثيل. كان يتوقع (يفترض) أن يأتي النداء على شكل رسالة متلفزة، تذاع في اليوم الأول للحرب، وتتكرر في يوم التهديد المتغطرس للخامنئي..ولا تقتصر فقط على مخاطبة “كلَّ الأحرار والمستضعفين والمقاومين والعلماء وأصحاب الرأي السديد”، والطلب منهم “رفع الصوت عاليًا، وإبراز مظاهر القوة والشجاعة والدَّعم” للمرشد وللشعب الإيرانيين، اللذين توجه اليهما البيان، بما لا يحتاج الى بيان، عن “الإضاءة العالمية” و”النموذج الإنساني” وغيرها من الصفات التي لا تقال في الحروب إلا إذا كان مصدرها الضعف والعطف، بعد عقود من سيادة خطاب القوة والمنعة والريادة الايرانية.
ظهر النداء وكأنه دعوة ملحّة وعاجلة الى المشاركة في مهرجان خطابي، في مناسبة إسلامية مثل يوم القدس، أو حتى تذكيراً بدعوة سابقة، تخلف عنها الحلفاء والشركاء.. ما أوحى بأن القيادة الإيرانية التي يلاحق رموزها وأفرادها الاميركيون والإسرائيليون عاتبة ربما على هؤلاء الحلفاء والشركاء، لأنهم لا يرفعون الصوت أعلى مما يصدر على “السوشال ميديا”، وربما لا يطلقون النار على عملية التصفية الأميركية الإسرائيلية للنظام والدولة الإيرانية، اللذين قدما الكثير الكثير من التنازلات الاستثنائية في جلسات التفاوض الخمس مع الاميركيين، من أجل الاحتفاظ بالحد الأدنى المسموح به دولياً من برنامجهم النووي.
العتب أو حتى الغضب شأن خاص بين إيران وحلفائها، لكن الشيخ نعيم لم يكن مضطراً الى التورط به. فبيانه لم يكن سوى تعويضٍ لغوي عن التقصير الذي يشعر به الحزب تجاه إيران في ظرفها العصيب. ولعله أيضاً كان يعبر ضمناً عن الاعتذار من القيادة الإيرانية لضيق الحال وفقدان القدرة على المساهمة في الجهد الحربي الإيراني، الذي كان الحزب بالتحديد، وطوال أربعة عقود، أحد أهم عناوينه وودائعه وطلائعه خارج حدود إيران، وعلى اختلاف جبهات المواجهة الإيرانية مع أعدائها وخصومها.
لكن التحدي الأصعب الذي يثيره الشيخ نعيم، هو تفكيك وتفسير تلك الجملة السحرية الغامضة التي أوردها في بيانه ونصها:” لسنا على الحياد، ولذا نُعبِّر عن موقفنا إلى جانب إيران وقيادتها وشعبها، ونتصرفُ بما نراه مناسبًا في مواجهة هذا العدوان الإسرائيلي الأميركي الغاشم”.. وهذا ليس تصريحاً ولا تلميحاً، حسب إختلاف أهواء المفسرين والمحللين، وعلماء الكلام السياسي الملتبس. هي اللغة تخون الأمين العام، وتحرمه من متعة الخطابة العالية من دون حسيب ولا رقيب. “الحياد” طارئ وملزم، ولا يستدعي دليلاً، أما عبارة “نتصرف بما نراه مناسباً..”، فهي حمّالة أوجه، فإن العدو الإسرائيلي ينتظر أيضاً اللحظة التي يتصرف بما يراه مناسباً”، قبل أن يتأكد مما اذا كان الشيخ نعيم قصد فقط رفع الصوت عالياً نصرة لإيران وشعبها.