بعد إعلان دونالد ترامب رفع العقوبات عن سوريا، شكل توماس باراك علامة فارقة في سوريا حيث زارها وشهد على توقيع أكبر استثمار في قطاع النفط والطاقة يقيمة سبعة مليارات دولار أميركي، وتوقع رفع وشيك لهذه الدولة التي انتقلت الى “عصر جديد” عن لائحة الدول المارقة. فمن هو صانع الحدث السوري؟
قدم توماس باراك قصته لأعضاء الكونغرس خلال مناقشات تعيينه كسفير في تركيا خلال نيسان الماضي، وركز على جذوره وارتباطه بالمنطقة وكيف أنه يفهمها ولديه “رؤية” للعمل قائمة على التسامح إلى جانب “السيف والسوط”.
أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، سرد باراك ملخصاً عن رحلته الشخصية، معتبراً إياها “تحية للحلم الأميركي”. وقال “هاجر جدّاي إلى الولايات المتحدة قرابة عام 1900. يوسف عبد الله (جو)، في سن الثانية عشرة وخليل شاهين (كيلي) في سن الرابعة عشرة. كلاهما نشأ في لبنان، والتي كانت تتمتع بسمعة طويلة منذ بداياتها الفينيقية بنسيج متعدد الثقافات من التأثيرات العربية والمسيحية وكانت منطقة إدارية داخل الإمبراطورية العثمانية. كان جو واحداً من تسعة أطفال مسيحيين موارنة وأصغر ستة أولاد يعيشون في زحلة، وهي بلدة في سهل البقاع. في ذلك الوقت كانت هناك حرب رهيبة مستعرة بين الموارنة والدروز، ولم تكن والدة جو ترغب في التضحية بابنها الأصغر في هذا الصراع الوحشي والعبثي. كانت عائلة البراك عائلة تجارية متواضعة الإمكانات، ولم يكن لديهم القدرة على إعالة عائلتهم الكبيرة أو مساعدة أي من أبنائهم الستة في إيجاد العزاء أو الراحة في أي مكان آخر. كانت زحلة تحكم من قبل قائمقام عثماني يُعرف بالمتصرف. كان المتصرف مسيحياً غير لبناني تم اختياره من قبل العثمانيين المتمركزين في القسطنطينية (إسطنبول الآن) وكان يتمتع بسلطة مطلقة على المسيحيين والدروز. كانت والدة جو خادمة منزلية لدى المتصرف وطلبت مساعدته للسماح لابنها الأصغر، جو، بالصعود على متن سفينة شحن ستصل في النهاية إلى أميركا. كانت كلفة “درجة الشحن” في ذلك الوقت نحو 20 ليرة تركية، والتي لم تكن عائلة جو تمتلكها. ثم تبرع الحاكم العثماني لوالدة جو بأجرة السفر وجواز سفر عثماني لسفر جو وأخبرها أنه حر في الذهاب. مشياً يداً بيد 34 ميلاً إلى ميناء بيروت، حيث صعد لأول مرة على متن الباخرة البريدية العثمانية إلى نابولي حيث انتقل إلى السفينة الأكبر، إس إس باتريا، لرحلة ثلاثة أسابيع إلى أميركا. اعتقدت أنها لن تراه مرة أخرى أو ربما لن تعرف مكانه أبداً… أم فقط يمكن أن تمتلك تلك القوة. زحف إلى الحفرة القذرة لتلك السفينة ومعه 13 ليرة تركية، قميص واحد، بنطال واحد، ومذكرة معلقة على قميصه مكتوبة باللغة العربية تقول: «شكراً لكم على قبولي».
استعرض باراك بعد ذلك مسيرة العائلة في أميركا، حيث عاش والده وجده معاً في كاليفورنيا يديران متجراً صغيراً، وكانت تلك التجربة مصدراً لغرس قيم الشجاعة، والمرونة، والرحمة، والامتنان، وتجاوز الفوارق الدينية والعرقية في نفسه وأخته.
انتقل باراك للحديث عن مسيرته المهنية، مشيراً إلى أنه كرس حياته لفهم تعقيدات بناء الفرق في الأسواق المالية العالمية، وصقل حاسة ثقافية خاصة، والسير في طرق لم يسبق أن سار عليها أحد. بعد حصوله على تعليم يسوعي ودراسة القانون، عمل في واحدة من أكبر شركات المحاماة الأميركية ممثلاً شركات هندسية وإنشائية في الشرق الأوسط، مثل فلور وبيكتل وجاكوبس، التي كانت من عمالقة الابتكار الأميركي في منطقة الشرق الأوسط التي كانت تشهد طفرة نفطية كبرى.
وأوضح أنه عمل كمحامٍ مالي في السعودية عام 1973 على مشاريع تمويل منشآت نفطية وغازية في المنطقة الشرقية، في بيئة قاسية تصل فيها درجات الحرارة إلى 120 درجة فهرنهايت، بلا وسائل ترفيه أو اتصال حديث، ولا كنائس أو معابد يهودية أو فنادق أو مصارف، بل مجرد مجمع أرامكو وثقافة بدوية أصيلة متجذرة في الإسلام. يروي باراك أنه كان يحضر المجالس المسائية، ويشرب القهوة العربية مع الشيوخ، ويستمع لقصصهم عن السياسة وشؤون المياه والنزاعات القبلية والأعمال، بلغة لم يكن يفهمها. كان يصلي مع أصدقائه السنة أيام الجمعة، كما نشأ في حي يهودي ودرس في مدارس كاثوليكية واعتاد مشاركة أصدقائه طقوس السبت اليهودية. وجد نفسه في مغامرة جديدة مع الإسلام. وأكد أن سنواته في الشرق الأوسط جعلته يتبنى قيمة “التسامح” كبوصلة في حياته.
أشار باراك إلى أن هذه التجربة كانت من الأسس التي بنى عليها عمله كرئيس لمجموعة كولوني كابيتال، شركة الاستثمارات العالمية التي أسسها عام 1991، والتي أصبح لها مكاتب في 19 دولة من ضمنها الشرق الأوسط، وتضم مستثمرين من معظم القارات.
وتحدّث باراك عن انتقاله من القطاع الخاص إلى العمل الحكومي، مبينا أنه تولى منصب نائب وكيل وزارة الداخلية في إدارة الرئيس رونالد ريغان، وهي التجربة التي أتاحت له تقدير كفاءة موظفي الخدمة المدنية والدبلوماسيين، وأهمية التنسيق بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. وأكد أنه سيقود البعثة الأميركية في تركيا بروح الاحترام والتعاون.
“إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها”
واختتم شهادته بمقولة الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان الشهيرة من دون أن ينسبها إليه واعتبرها شعاراً لعمله الدبلوماسي: “إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها”.
تسلّم باراك مهامه رسمياً في أنقرة منتصف مايو 2025، وقدم أوراق اعتماده للرئيس أردوغان. ع مل منذ وصوله على فتح قنوات التواصل مع المسؤولين الأتراك، فاجتمع مع وزير الخارجية هاكان فيدان وبدأ لقاءات تعريفية مع كبار المسؤولين، ليُعيَّن قبل أسبوعين بمنصب المبعوث الأميركي إلى سوريا أيضاً.
سايكس-بيكو وخطاب التجاوز
ويبدو أن باراك يحب استخدام “التضمين الرمزي” في خطابه والأسلوب السردي وكتب بعد لقائه بالمسؤولين السوريين في إسطنبول منشوراً أثار اهتماماً كبيراً حين قال: “قبل قرن، فرض الغرب خرائط وانتدابات وحدوداً مرسومة بقلم رصاص، وحكماً أجنبياً. اتفاق سايكس-بيكو قسّم سوريا والمنطقة من أجل مكاسب إمبريالية، لا من أجل السلام. لقد كان خطأً كلّف أجيالاً، ولن نكرره”.
وأضاف: “زمن التدخلات الغربية قد ولّى. المستقبل هو للحلول الإقليمية، للشراكات، ولدبلوماسية قائمة على الاحترام”. واستشهد بكلمة للرئيس ترامب ألقاها في الرياض بتاريخ 13 أيار/مايو، قال فيها إن “زمن تدخّل الغربيين في الشرق الأوسط لإلقاء المحاضرات عن كيفية العيش والحكم قد انتهى”. وتابع: “مأساة سوريا وُلدت من الانقسام، ونهضتها يجب أن تبدأ بالكرامة والوحدة والاستثمار في شعبها. وهذا يبدأ بالحقيقة والمحاسبة، والعمل مع دول المنطقة لا الالتفاف عليها”.
وفي إشارة إلى التغير في طبيعة الدعم، أكد: “نقف إلى جانب تركيا والخليج وأوروبا – ليس بالقوات والمحاضرات أو الحدود المتخيلة، بل جنباً إلى جنب مع الشعب السوري.. مع سقوط نظام الأسد، بات الباب مفتوحاً للسلام – ومن خلال رفع العقوبات، نتيح للسوريين أخيراً فرصة عبور ذلك الباب نحو طريق الأمن والازدهار”.
رغم شاعرية الخطاب فإنه لا ينفصل عن إشكالية جوهرية: فهو في الوقت الذي يدين فيه تقسيمات القرن العشرين، يغضّ النظر عن الجولان السوري المحتل. ففي عام 2019، اعترف الرئيس الأميركي دونالد ترامب رسمياً بضم إسرائيل للجولان، في مخالفة واضحة لقرارات الشرعية الدولية، وعلى رأسها القرار 497 لمجلس الأمن. هذا الاعتراف لم يكن مجرد موقف رمزي، بل خطوة قانونية – سياسية تُكرّس تغييراً في حدود دولة ذات سيادة، بفعل قوة خارجية يتطابق مع جوهر سايكس-بيكو.
واستخدام باراك للتاريخ بهذه الطريقة يُضفي إيحاءً بحدوث تحول أو تجاوز للماضي، من دون أن يُرافقه أي تغيير حقيقي في أدوات السيطرة أو أنماط النفوذ. أما الحديث عن “الحلول الإقليمية” كمستقبل بديل، فيفترض وجود إقليم موحد ومنسجم، بينما الواقع يكشف عن تباين حاد في المصالح وتفاوت في مستويات التأثير والقدرة بين دول الجوار السوري.
من هو توماس باراك؟
يُعد توما س جوزيف باراك شخصية محورية في تقاطع عالم المال والسياسة الأميركية، فهو رجل أعمال ملياردير وصديق مقرب ومستشار للرئيس السابق (والحالي) دونالد ترامب. وُلد باراك في كاليفورنيا عام 1947. نشأ في كولفر سيتي حيث كان والده يمتلك متجر بقالة. تخرج من جامعة جنوب كاليفورنيا بدرجة بكالوريوس في التاريخ عام 1969، وبرز كرياضي في فريق الرجبي بالجامعة. واصل دراسته وحصل على درجة الدكتوراة في القانون من جامعة سان دييغو عام 1972، كما عمل محرراً لمجلة القانون في كلية الحقوق بجامعة USC.
بدأ باراك مسيرته المهنية كمحامٍ وعمل لفترة في مكتب المحامي الشخصي للرئيس نيكسون، هربرت كلومباك. لكن نقطة التحول المبكرة كانت في السبعينيات عندما أوفد إلى المملكة العربية السعودية للعمل هناك. هذه الفترة سمحت له باكتساب خبرة في المنطقة وتأسيس علاقات مع مستثمرين من الشرق الأوسط، كما ساهمت في تعلمه اللغة العربية بدرجة معينة من الطلاقة بفضل جذوره الشرق أوسطية وعمله في السعودية.
في عام 1985، دخل باراك قطاع الاستثمار العقاري الخاص. كانت أول صفقة بارزة له مع دونالد ترامب حين باعه حصة في سلسلة متاجر ألكسندرز. في عام 1990، أسس شركته الخاصة Colony Capital (التي عُرفت لاحقاً باسم Colony NorthStar ثم DigitalBridge). حققت شركته نجاحاً كبيراً في اقتناص الأصول والعقارات ال متعثرة وتحويلها إلى أرباح، محققة عوائد بنحو 50% في أول عامين.
توسعت استثمارات باراك لتشمل مئات الملايين من الدولارات في العقارات بالشرق الأوسط وأوروبا، وشراء أصول معروفة مثل فندق بلازا في نيويورك ومنتجع “نيفرلاند” الخاص بمايكل جاكسون. كما دخل مجال الاستثمار الرياضي والإعلامي، حيث اشترى نادي باريس سان جيرمان الفرنسي لكرة القدم عام 2012 قبل أن يبيعه لجهاز قطر للاستثمار، واستحوذ على شركة ميراماكس للإنتاج السينمائي ثم باعها لجهات قطرية محققاً أرباحاً. هذه النجاحات أدخلته لفترة ضمن قائمة فوربس لأغنى أثرياء العالم، حيث احتل المرتبة 833 بثروة قدرت بـ 1.1 مليار دولار في 2011. ورغم تراجع ثروته عن عتبة المليار لاحقاً، ظل مؤثراً، خاصة في جذب رؤوس أموال خليجية وآسيوية لشركته.
صديق ترامب وجسره نحو الخليج: لم يقتصر دور باراك على الأعمال، بل بنى شبكة علاقات سياسية قوية، أبرزها صداقته الطويلة مع دونالد ترامب التي تعود لثمانينيات القرن الماضي عبر صفقات عقارية. أصبح باراك أحد أبرز الداعمين الماليين لحملة ترامب الرئاسية عام 2016، حيث جمع التبرعات وساهم في التمويل. الأهم من ذلك، لعب دوراً كمستشار خلف الكواليس وحلقة وصل بين حملة ترامب وبعض قادة الشرق الأوسط. كشفت تقارير عن فتحه قنوات اتصال مع مسؤولين في الإمارات والسعودية، وتوصيته بتعيين بول مانافورت مديراً للحملة، وسعيه لترتيب لقاء بين مانافورت ومسؤولين خليجيين. هذا الدور جعله يُوصف بأنه “جسر ترامب نحو أمراء الخليج”، مستفيداً من علاقاته القديمة هناك، مثل صداقته وعمله السابق مع السفير الإماراتي يوسف العتيبة. سعى باراك لطمأنة المسؤولين الخليجيين حيال تصريحات ترامب المثيرة للجدل، واصفاً ترامب في رسالة للعتيبة بأنه “ملك المبالغة ويمكننا إرشاده نحو الحكمة” ومؤكداً حاجته لعقول عربية حوله.
بعد فوز ترامب عام 2016، ترأس باراك لجنة تنصيب الرئيس. ورغم التوقعات، نأى بنفسه عن تولي منصب رسمي بارز، ورفض عروضاً مثل وزير الخزانة. اقترح إنشاء منصب مبعوث رئاسي للتنمية الاقتصادية في الشرق الأوسط ليتولاه، لكن الفكرة لم تلق دعماً. عاد للتركيز على أعماله، واستفادت شركته Colony NorthStar بعد الانتخابات من الأجواء الإيجابية مع الحلفاء الخليجيين، مستقطبة أكثر من 7 مليارات دولار استثمارات، نحو 24% منها من صناديق سيادية ومستثمرين في الإمارات والسعودية.
قضايا قانونية وتبرئة مفاجئة
على الرغم من نفوذه، واجه باراك متاعب قانونية كبيرة. في يوليو 2021، اتهمته وزارة العدل الأميركية بالعمل كعميل أجنبي غير مسجل لصالح الإمارات، والتآمر، وعرقلة العدالة، والإدلاء ببيانات كاذبة لمكتب التحقيقات الفدرالي (FBI). زعمت الوزارة أنه استغل نفوذه للتأثير على السياسات الأميركية لصالح دولة أجنبية من دون الإفصاح القانوني، وأن شركته تلقت مئات الملايين من الصناديق الإماراتية في أثناء سعيه للتأثير على مواقف ترامب.
تم اعتقاله في 2021 وأفرج عنه بكفالة ضخمة بلغت 250 مليون دولار. استمرت القضية حتى محاكمته أمام هيئة محلفين في نيويورك عام 2022. في نوفمبر 2022، برّأته هيئة المحلفين من جميع الت هم. اعتبرت التبرئة مفاجئة للكثيرين نظراً لجدية التهم، ورأى محللون أنها أظهرت صعوبة إدانة شخصيات مقربة من الرئيس. طويت صفحة القضية من دون إدانة، مما أزال عقبة أمام تعيينه لاحقاً في مناصب رسمية.