في خضم التحولات الإقليمية المتسارعة، خرج حزب الله، عبر أمينه العام نعيم قاسم، بدعوة إلى “المصالحة” مع المملكة العربية السعودية، مطالبًا بأن تُوجَّه العداوة نحو إسرائيل بدلًا من “المقاومة”.
هذه الدعوة، التي قد تبدو في ظاهرها انفتاحًا، تكشف في جوهرها عن أزمة عميقة يعيشها الحزب، ومحاولة لإعادة التموضع في لحظة ضعف داخلي وضغط شعبي متصاعد وهجوم اسرائيلي مستمر عليه، من دون أن تتوافر لديه أي قدرة على التصدي او الردع أو الاحتماء!
لكن قبل الخوض في مضمون هذه الدعوة، لا بد من التذكير بأن العلاقات بين الدول لا تُبنى عبر أطراف أو جماعات، بل عبر مؤسسات شرعية تمثل الإرادة الوطنية. والمملكة العربية السعودية، بم واقفها المعلنة والثابتة، لم تتعامل مع لبنان، منذ وصول ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى السلطة، إلا وفق معادلة دولة مع دولة!
وقد أكدت مرارًا، على لسان مسؤوليها، أن أي علاقة أو دعم أو تعاون يجب أن يمر عبر الدولة اللبنانية، حصرا. و لم تضع السعوديّة شروطًا على لبنان سوى أن يكون دولة سيدة، قادرة على ضبط قرارها الداخلي والخارجي، بعيدًا عن هيمنة أي طرف.
أما حزب الله، فقد سعى منذ سنوات إلى الحلول مكان الدولة، سواء في السياسة الخارجية أو في الأمن والدفاع، متجاوزًا المؤسسات الدستورية، ومكرّسًا منطق “الدولة داخل الدولة”، الأمر الذي سبب الكارثة الحالية!
ولعل ما يثير الريبة في توقيت هذه الدعوة، هو أنها تأتي في لحظة تراجع إقليمي للحزب، وتآكل في شرعيته الداخلية، ومحاولة للالتفاف على الضغط الشعبي اللبناني الذي يحمّله مسؤولية الانهيار الاقتصادي والعزلة العربية والحرب المفتوحة.
وعليه، فإنّ الحزب لا يطلب المصالحة من موقع قوة، بل من موقع مأزوم، ويبدو أنه يراهن على أن فتح قناة مع السعودية قد يخفف من وطأة أزمته، أو يعيد تلميع صورته عربيًا.
لكنّ السعودية، من جهتها، لا ترى في حزب الله طرفًا سياسيًا شرعيًا، بل تنظيمًا إرهابيًا تمّ تصنيفه رسميًا منذ العام 2016، وفرضت عليه عقوبات بسبب تورطه في أنشطة تهدد الأمن القومي السعودي والعربي. فالحزب لم يكتفِ بالتدخل في سوريا والعراق واليمن، بل دعم جماعات مسلحة، وشارك في تهريب الأسلحة والمخدرات، ودرب عناصر على تنفيذ عمليات ضد المملكة. وكان السفير السعودي في بيروت قد اعلن بوضوح أنّ “سلوك حزب الله العسكري الإقليمي يُهدد الأمن القومي العربي”، داعيًا الحكومة اللبنانية إلى تحمل مسؤولياتها.
من هنا، فإن أي محاولة من الحزب لتقديم نفسه كوسيط أو طرف في العلاقات مع السعودية، تتجاهل حقيقة أن المملكة لا ترى فيه سوى ذراعًا إيرانية عسكرية، لا يمكن الوثوق بها أو التعامل معها خارج إطار الدولة اللبنانية.
إن الداخل اللبناني ومعه السعودية، لا يعاديان المقاومة، لكنهما يرفضان أن تُختطف هذه المقاومة وتُستخدم كغطاء لمشاريع خارجية. وهما ، بخبرتهما السياسية، يدركان أن مواجهة إسرائيل، إذا لزم الأمر، لا تكون بالشعارات، بل ببناء دول قوية، مستقلة، ومتماسكة. أما من يخلط بين المقاومة والوصاية، وبين السيادة والهيمنة، فهو لا يخدم إلا أعداء لبنان والمنطقة.
وقبل أن يطالب حزب الله الآخرين بتغيير نظرتهم إليه، عليه هو أولًا أن يغيّر نظرته إلى الدولة اللبنانية، وأن يعترف بحقها الحصري في احتكار السلاح وقرار الحرب والسلم. وحين يصبح الحزب جزءًا من دولة سيدة، تحتكر وحدها قرارها وسيادتها، لن يكون بحاجة إلى مصالحة أحد، لأن الجميع—تتقدمهم السعودية—سيتعاملون مع لبنان من موقع الندية والاحترام المتبادل، كما يليق بالدول ذات السيادة.