بالكل سرور يا فارس، إليك افتتاحية متكاملة تجمع بين التحليل السياسي العميق والخاتمة الحاسمة التي طلبتها، بصياغة رصينة تصلح للنشر في افتتاحيات الرأي أو التحليل الاستراتيجي:
في السياسة، لا شيء يحدث صدفة. حين يُفرج عن رهينة إسرائيلية بعد أكثر من تسعمئة يوم من الاحتجاز في بغداد، وفي التوقيت ذاته تُعلن إيران عن تفاهم جديد مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية في القاهرة، فإن السؤال لا يكون عن الحدثين بحد ذاتهما، بل عن الخيوط التي تربطهما خلف الستار.
لكن ما يلفت الانتباه أكثر هو أن هذه التطورات تزامنت مع حدثين ليسا بالضرورة منفصلين: أولًا، الضربة الإسرائيلية غير المسبوقة التي استهدفت قادة من حركة حماس في قلب العاص مة القطرية الدوحة، في تحدٍ مباشر لدور قطر كوسيط إقليمي. وثانيًا، التراجع الملحوظ في حدة الخطاب الإيراني بشأن سلاح حزب الله في لبنان، في وقت أظهر “حزب الله”، مع تراجع الحكومة اللبنانية خطوة بسيطة، مرونة كبيرة في التعاطي مع إقرار السلطة اللبنانية مبدأ سحب سلاحه.
الإفراج عن إليزابيث تسوركوف لم يكن مجرد انتصار إنساني أو دبلوماسي لإدارة ترامب، بل جاء في لحظة دقيقة، تزامنت مع إعلان طهران استعدادها لاستئناف التعاون النووي، ومع ضربة إسرائيلية أسقطت الخطوط الحمراء، ومع مؤشرات على تخفيف الاحتقان حول ملف سلاح حزب الله، الذي لطالما اعتبرته إيران خطًا أحمر.
في عالم التفاوض، لا تُعقد الصفقات دائمًا على الطاولة. أحيانًا تُدار عبر ملفات متوازية، حيث يُقدَّم التنازل في ملف إنساني، مقابل انفراجة في ملف تقني أو سياسي، أو حتى غضّ طرف عن عملية عسكرية. وهنا، يبدو أن إيران أرادت أن ترسل رسالة مزدوجة: أنها لا تزال تملك مفاتيح التأثير في العراق ولبنان، لكنها مستعدة لتقديم تنازلات محسوبة، إذا ما أُحسن التعامل معها.
في المقابل، واشنطن اختارت أن تُظهر مرونة محسوبة: تحرير رهينة، دون تصعيد ضد طهران، وتفاهم نووي، دون تنازل عن أدوات الضغط، وتغاضٍ عن ضربة إسرائيلية في الدوحة، مقابل تقدم في ملف سلاح حزب الله، الذي يشكل أحد أعقد ملفات السيادة اللبنانية.
ترامب، رغم نبرته الحادة تجاه إيران، أظهر في ملف تسوركوف قدرة على المناورة، وحرص على عدم تحميل طهران المسؤولية المباشرة، بل ركّز على ميليشيا كتائب حزب الله. وفي ملف الضربة على الدوحة، شدد على أنها “قرار إسرائيلي مستقل”، مع تأكيده على احترام قطر كحليف وصديق.
أما إيران، فقد اختارت أن تُظهر انفتاحًا تفاوضيًا في القاهرة، وتراجعت عن تصعيدها في ملف سلاح حزب الله، في وقت تتزايد فيه الضغوط الدولية على بيروت لاستعادة احتكار الدولة للسلاح، وسط دعم أميركي واضح للجيش اللبناني، وزيارات متكررة لقادة “سنتكوم” إلى بيروت.
إن ما يبدو للوهلة الأولى انفتاحًا إيرانيًا مفاجئًا—سواء في ملف تسوركوف، أو في التفاهم النووي، أو في تخفيف اللهجة حول سلاح حزب الله—ليس سوى انعكاس مباشر لحالة الوهن التي أصابت المحور الإيراني في الشرق الأوسط. فبعد حرب يونيو بين إسرائيل وإيران، وتزايد الضغوط الأميركية، وتراجع قدرة طهران على حماية نفوذها في العراق ولبنان، باتت طهران مضطرة إلى إعادة التموضع، لا من موقع قوة، بل من موقع دفاعي هش.
هذا الانفتاح ليس خيارًا استراتيجيًا، بل ضرورة فرضتها الوقائع. وإيران، التي لطالما فاوضت من موقع التحدي، تج د نفسها اليوم تفاوض من موقع التراجع. إنها لحظة فارقة، لا في مسار التهدئة فحسب، بل في إعادة تشكيل معادلة النفوذ الإقليمي برمتها.