منذ السابع من تشرين الأول 2023، دخل الشرق الأوسط مرحلة جديدة من الصراع الجيوسياسي والاقتصادي. الهجوم المفاجئ الذي شنّته حركة «حماس» على غلاف غزة لم يكن مجرد عملية عسكرية، بل زلزالًا استراتيجيًا أصاب مشاريع كبرى كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها يخططون لها، وعلى رأسها «الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا».
هذا المشروع، الذي أُعلن عنه في قمة العشرين بنيودلهي في التاسع من أيلول 2023، يهدف إلى ربط الهند بالخليج وأوروبا عبر شبكة سكك حديدية وموانئ مرورًا بإسرائيل، ليكون بديلاً أو منافسًا لمبادرة «الحزام والطريق» الصينية.
الممر الاقتصادي، أو ما اصطلح على تسميته بـ«جسر القارات»، ليس مجرد طريق تجاري، ب ل أداة استراتيجية لإعادة تشكيل التجارة العالمية وتمكين الغرب بقيادة واشنطن من احتواء النفوذ الصيني. نجاحه يتطلب استقرارًا إقليميًا طويل الأمد وتعاونًا بين دول الخليج وإسرائيل وأوروبا.
في هذا السياق، جاء إعلان حرب «طوفان الأقصى» بدعم إيراني، مع دخول القوى التابعة أو المتحالفة معها على خط المواجهة، ليشكّل تحديًا مباشرًا للمشروع الاقتصادي الأميركي الضخم الذي يجمع أوروبا، والهند، والقوى الخليجية، وإسرائيل. كانت إيران تراهن على أن تحظى الحرب بدعم الصين وحليفتها روسيا، بما يمكّنها من تحقيق انتصار أو على الأقل فرض نفسها شريكًا في صياغة الأبعاد الاقتصادية والاستراتيجية في الشرق الأوسط والعالم.
لكن الرياح جرت بما لا تشتهي سفن «جبهة المقاومة»، إذ ارتد الطوفان ليصيب قلب إيران نفسها، ويسقطها من موقع القيادة إلى طرف مستهدف بالحرب التي وصلت إلى عمقها. ومع تقدم اتفاقيات وقف إطلاق النار، وعودة الحديث عن «جسر القارات» إلى الواجهة، تبدو تصفية «جبهة المقاومة» مسألة استراتيجية لا تحتمل التسويف أو تسويات شكلية.
هذا الواقع ينعكس مباشرة على مستقبل «حزب الله»، الذي يواجه إصرارًا إقليميًا ودوليًا على إنهاء جناحه العسكري بشكل جذري، ما يحرمه من أيّ أمل في تكرار سيناريو 2006 في العام 2026.
بالنسبة لواشنطن وحلفائها، حزب الله ليس مجرد تنظيم محلي، بل جزء من شبكة إقليمية مرتبطة بإيران، تسعى إلى تقويض أيّ مشروع اقتصادي أو سياسي من شأنه تحقيق الطموح الأميركي، بحيث لا يعود ممكنًا الانقلاب على المسار المرسوم للمنطقة بإرادة دولها الأساسية.
لم يعد خافيًا أن إيران لم ترَ في هجوم حماس تحريرًا للقدس بقدر ما سعت لتحقيق هدفين استراتيجيين:
إفشال مسار التطبيع الخليجي-الإسرائيلي، وهو شرط أساسي لإنجاح الممر الاقتصادي.
ضرب المشروع الذي يبقيها خارج اللعبة ويعزز موقع الولايات المتحدة في مواجهة الصين.
وكان «حزب الله» رأس الحربة في هذه الرؤية الإيرانية.
لذلك، يصبح إنهاء البعد العسكري للحزب ضرورة استراتيجية لا مجرد مطلب أمني، لأنّ وجود قوة مسلحة قادرة على إشعال حرب واسعة في أي لحظة يعني أن المنطقة ستظل رهينة عدم الاستقرار، ما يهدد كل خطط التكامل الاقتصادي بين آسيا والشرق الأوسط وأوروبا.
من هنا، فإن التفاهم الأميركي-الإسرائيلي-الغربي على تحييد حزب الله عسكريًا ليس خيارًا، بل شرط لإنجاح مشروع «جسر القارات» وضمان تحول الشرق الأوسط من ساحة صراع إلى جسر للازدهار العالمي.
بناءً عليه، يواجه لبنان، العاجز حتى الآن عن دفع حزب الله إلى مراجعة خياراته، سيناريوهات مستقبلية تتصدرها، وفق التلميحات الأميركية والتصريحات الإسرائيلية، الحرب.
الخلاصة أن إنهاء البعد العسكري لحزب الله لم يعد مسألة لبنانية داخلية، بل جزء من معركة اقتصادية عالمية، حيث يتوقف مستقبل التكامل التجاري بين ثلاث قارات على قدرة المنطقة على التخلص من عوامل عدم الاستقرار.