في لحظة فارقة من تاريخ الصراع الفلسطيني- الاسرائيلي، وبين ركام الحرب التي أنهكت الجميع، يخرج صوت غير مألوف من قلب القطاع، ليعيد رسم خارطة التحالفات ويكسر سرديات طالما اعتُبرت مقدسة. لم تعد أميركا “الشيطان الأكبر”، ولم يعد محور “الممانعة” هو الحاضن لقضية فلسطين. بل إن غزة، التي كانت تُستخدم ورقة في لعبة المحاور، تقول اليوم إنها تريد الحياة لا الموت، البناء لا الهدم، الدولة لا الوهم… اميركا لا إيران!
رسالة رسمية وجهها مسؤولون غزّيون، من بينهم رئيس بلدية غزة يحيى السراج، ورئيس غرفة التجارة إياد أبو رمضان، والخبير الاقتصادي سفيان عودة، إلى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، عبّروا فيها عن امتنانهم لدوره في إنهاء ا لحرب، مؤكدين أن “جهودكم أعادت لنا أهم شيء — الأمل”. الرسالة، لم تتوقف عند حدود الشكر، بل دعت ترامب لزيارة القطاع، ليشهد بنفسه “صمود شعبنا والتجدد الذي ساهمت قيادتكم في تحقيقه”.
ولم يكن هذا الموقف معزولًا، بل جاء متسقًا مع بيان رسمي صادر عن حركة حماس نفسها، عقب مفاوضات شرم الشيخ التي أفضت إلى اتفاق وقف إطلاق النار. فقد أعلنت الحركة صراحةً “تقديرها العالي لجهود الرئيس الأميركي دونالد ترامب الساعية إلى وقف الحرب نهائيًا وانسحاب الاحتلال بشكل كامل من قطاع غزة”، داعيةً إياه والدول الضامنة إلى ضمان تنفيذ الاتفاق وعدم السماح للاحتلال بالتنصل من التزاماته.
هذا التحوّل في الخطاب الغزّاوي يتناقض جذريًا مع السردية الإيرانية التي لطالما صورت أميركا على أنها عدوة المسلمين، كما يتناقض مع صيحات محور المقاومة التي ملأت فضاء الضاحية الجنوبية في ذكرى اغتيال السيّد حسن نصرالله ، حيث تمّ وصف “أمريكا” ب “عدوة المسلمين”، بعدما اعتبرها الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم بأنّها شريكة إسرائيل في كل ما تقترفه من جرائم!
لكنّ غزة، التي دفعت ثمنًا باهظًا للحرب التي استمرا سنتين، تقول اليوم بصوت واضح: أميركا ليست عدوة المسلمين، بل حليفتهم ومطلبهم.
إنّ هذا الموقف يعكس تبرؤًا واضحًا من المحور الإيراني، ليس فقط بالخطاب، بل حتى بـ”الشعار”، كما تقول الرسالة الضمنية. غزة اليوم تطالب بإعادة الإعمار، وبقيام دولة فلسطينية مستقلة وفق قرارات الأمم المتحدة، وليس بشعارات فارغة أو صواريخ لا تجلب سوى الدمار.
إن ما يحدث في غزة ليس مجرد تبدّل في الخطاب، بل هو انعكاس لتحول إقليمي أوسع، بدأت ملامحه تتشكل، بعيدًا عن الاصطفاف الأيديولوجي. اذًا، من اتفاقيات التطبيع إلى إعادة تعريف العلاقة مع أميركا، ومن تراجع النفوذ الإيراني في الساحات إلى صعود أدوار جديدة لتركيا ومصر وقطر، يبدو أن المنطقة تتجه نحو براغماتية سياسية تضع مصالح الشعوب فوق الشعارات. وبالختام، هل تسمع يا سيّد علي خامنئي أهل غزة؟