لم تكن تفصل عن الانتخابات البلدية والاختيارية في جبل لبنان، سوى أيّام قليلة، حين دخلت مجموعة من المواطنين اللبنانيّين في تحدّ بين فئة تجزم بأنّ هذه الإنتخابات سوف يتم إرجاؤها وثانية تؤكد أنّها تملك معلومات بأنّ الإنتخابات حاصلة في المواعيد المعلنة.
هؤلاء الذين اعتقدوا بوجوب إرجاء الانتخابات المحلية إنطلقوا من اعتبارات عدة أبرزها أنّ اللبنانيين إنتقلوا، فجأة من اهتمام حصري بالحرب، الى التطلع نحو مستقبلهم في دولة سيّدة وقادرة وعادلة وفاعلة، وبالتالي لا بد من إعطائهم فترة كافية لالتقاط أنفاسهم والتفكير في الطريقة الأجدى لتشكيل مجالس بلدية متماسكة وشعبية وناجحة، حتى تستطيع أن تواكب إعادة إحياء الدولة في لبنان.
الفئة التي جزمت بأنّ الإنتخابات حاصلة في مواعيدها المعلنة ربطت ذلك بنقطة واحدة لا غير: لن يقبل الرئيس جوزاف عون أن تكون انطلاقة ولايته مشوبة بعيب إرجاء لأوّل الاستحقاقات الإنتخابية، لأنّ ذلك من شأنه أن يضرب صورته. وما ينطبق على عون يسحب نفسه أيضا على رئيس الحكومة نواف سلام الداخل حديثا الى “نادي رؤساء الحكومة” من بوابة “التغيير”.
ولم توافق الفئة الأولى على هذا المبرر واعتبرته “قاصرًا”، لأنّ العهد الحالي كما حكومته الأولى لن يُحققا “معجزة ديموقراطية” ب”سلق المواعيد”، لأنّ آخر انتخابات بلدية في ايار العام 2016، جرت في ظل الفراغ الرئاسي ونظمته حكومة تصريف أعمال الرئاسة.
وصحّت رهانات الفئة الثانية، إذ إنّ السلطة، بدوام صباحي لعون وبدوام مسائي لسلام، أنجزت دورتين من أصل 4 دورات، ولكنّ ما نادت به الفئة الأولى حول وجوب إرجاء تقني للإنتخابات المحلية، بدأت تترجم نفسها في الوقائع.
وبالفعل، فهذه الانتخابات البلدية والاختيارية التي أُنجزت في كل من جبل لبنان ولبنان الشمالي وعكار، أظهرت حتى تاريخه نقاط ضعف ستكون تداعياتها السلبية كبيرة في المقبل من الأيّام.
ولعلّ النقطة الأبرز تتمثّل بتدنٍ تاريخي لنسبة الاقتراع. السلطة التي تمدح نفسها لإجرائها أوّل ان تخابات بلدية واختيارية منذ تسع سنوات، لا تتجرأ على مناقشة هذه الظاهرة، على الرغم من أنّها أخطر ما يمكن أن يعاني منه نظام ديموقراطي.
نسبة الإقتراع في الأنظمة الديموقراطية لها أهمية فائقة، لأنّها تعكس مدى ارتباط المواطن بدولته أو انفكاكه عنها، ومدى اعتماده على آلياتها لحل المشاكل التي تعترض كل جزئيات حياته.
وفي لبنان، كانت المخاوف من عدم ثقة “الأكثرية الصامتة” بالدولة وأجهزتها وإداراتها والقوى السياسية العاملة فيها، ماثلة في أذهان من لديهم الحد الأدنى من المعرفة في طريقة احياء الأوطان . كان كثيرون يتطلعون الى أن يعي العهد والحكومة هذه الحقيقة ويتركان ما يكفي من وقت من أجل إعادة ضخ الثقة بالمواطنين الذين هاجرت مجموعة كبيرة من فئتهم الشابة، وأصيبت الفئات الأكبر سنًا بجراح التفقير والفساد والإنحلال والصفقات وعدم التوفيق بين الشعارات الرنانة والممارسات “التعبانة”.
لم تمنح السلطة اللبنانيين هذا الممر الإلزامي، بل فضلت أن تقدم عليه صورتها.
وعليه، وفيما تصب القوى السياسية جهدها على استخلاص نتائج خاصة بحجمها وشعبيتها، وتعمد الى التسويق لإيجابياتها هي وسلبيات منافسيها، تعرّضت معظم البلديات اللبنانية في جبل لبنان ولبنان الشمالي وعكار- وهو أمر سوف ينسحب على بلدات ما تبقى من محافظات- لانتكاسات كبيرة، سواء من خلال إيصال مجالس بلدية غير قادرة على تشكيل فرق عمل فعّالة، أو من خلال اضطرارها الى تنصيب شخصيات “بما اتفق”، وذلك على قواعد: “جود من الموجود”، وإثبات الذات عائليا وسياسيًا.
وسوف تعاني المجالس البلدية من عدم اكتراث غالبية المواطنين بها. غالبية ساحقة أهملت الانتخابات وقاطعتها، لعدم القناعة بجدواها، في الظروف الراهنة وفي ظل المعطيات المتوافرة.
وتعتقد أوساط متابعة للإنتخابات البلدية والإختيارية والعمل المحلي في لبنان بأنّ السلطة ستجد نفسها في وقت لاحق أمام مأزق حقيقي، إذ إنّها، وفي حال لم تلجأ الى إجراء انتخابات محلية جديدة، في أقرب فرصة ممكنة، وبعد إعطاء مهل كافية تعيد ثقة القاعدة بالسلطة، ستواجه شللًا كبيرًا في العمل البلدي في لبنان، وهو عمل لا يمكن التفكير بإعادة بناء الدولة، من دون فاعليته.
وتعتبر هذه المصادر أنّ الانتخابات البلدية سوف تفرض نفسها، مع وصول قانون اللامركزية الإدارية الموسعة، الى مجموعة القوانين اللبنانية، وفق ما ينص عليه اتفاق الطائف من جهة ووفق ما تصر عليه قوى سياسية أساسية في البلاد، من جهة أخرى!
الدرس الأساس الذي يُفترض بالسلطة الجديدة أن تستخلصه ممّا يحصل يتلخص بوجوب ان تستعجل با لتخلص ممّا يضر بالدولة وليس بما يخدم صورتها على حساب الأصلح!
وفي الخلاصة، وخلافا لما تدعيه السلطة اللبنانية في شعارات الفخر التي تطلقها في توصيف نفسها، فهي فشلت في تحويل الانتخابات المحلية إلى خطوة إيجابية في مسار إعادة بناء الدولة وتزخيم المجتمع وتركت غالبية ناسها تحت رحمة صراع الأحجام الذي لا يعترف بأولوية الصالح العام!