“لقد وجهنا صفعة محكمة لأميركا”، هكذا افتتح المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية، علي خامنئي، أول خطاب له بعد توقف “حرب الاثني عشر يوماً”، مُضيفاً أن “العدوان الأميركي لم يحقق أي إنجاز يُذكر”. إلا أن هذه الكلمات، التي حُشدت فيها كل أدوات الرمزية الثورية، تطرح سؤالًا جوهريا: هل كانت هذه الحرب حقًا صفعة لإسرائيل واميركا أم صفعة مؤلمة للنظام الإيراني وسيادته؟
في مقابل الخطاب الرسمي المفعم بالثقة، رسمت الوقائع الميدانية والأمنية صورة مختلفة: ضربات اميركية استهدفت منشآت نووية حساسة في نطنز وفوردو وأصفهان، واغتيالات نوعية لقيادات رفيعة داخل قلب العاصمة، واختراق استخباراتي وصفه مسؤولون سابقون بأنه “الأخطر منذ الثورة”. كل ذلك حدث دون قدرة حقيقية على الردع، وسط اختفاء فاعلية منظومات الدفاع الجوي وتراجع الردع التقليدي.واضطرار ايران على “ترتيب” انتقام شرفي، بتنفيذ هجوم صاروخي “مسرحي” على قاعدة “العيديد” الاميركية في قطر، وفق ما صوّره الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ولم تنفه ايران أبدًا.
التحول في لهجة الخطاب ذاته يعكس هذا التراجع. ففي أزمات سابقة، كالرد على اغتيال قاسم سليماني، كانت وعود “الانتقام القاسي” و”محو تل أبيب” تتصدر المشهد، أما الآن، فقد بات الحديث يتمحور حول “الرد المناسب”، وهي صيغة أقرب إلى الاحتواء منها إلى التهديد. وهذا لا يعكس فقط تغيراً في الخطاب، بل تحوّلًا أعمق في العقيدة الإيرانية ذاتها: من استراتيجية “إزالة إسرائيل” كشعار ثوري مركزي، إلى هدف أكثر تواضعاً يتمثل في ردع إسرائيل عن ضرب إيران، لا أكثر.
هذا الانكفاء في طموح العقيدة ترافق مع قبول طهران بوقف إطلاق النار بوساطة أميركية وقطرية، من دون أن تحقق مكاسب تفاوضية تُذكر. لقد فُرض عليها هذا التهدئة بعد استنزاف أمني وعسكري، ووجدت نفسها أمام واقع جديد تُدار فيه معارك السيادة الإيرانية من خارج حدودها.
قد يرى البعض أن قدرة إيران على البقاء في دائرة الصراع بعد هذه الضربات يُعد بحد ذاته نجاحًا، لكن هل البقاء وحده كافٍ؟ أم أن الرهان يجب أن يكون على القدرة على المبادرة وفرض معادلات ردع حقيقية؟
إن إيران اليوم، وبرغم خطابات “الصمود”، تجد نفسها مضطرة لتقليص طموحاتها الثورية، وتبنّي لغة براغماتية تتعايش مع واقع التفوق التكنولوجي والاستخباراتي الإسرائيلي. لذا، فإن “الصفعة” التي تحدّث عنها المرشد قد تكون وُجّهت بالفعل… لكنّ وجهتها، هذه المرة، لم تكن العدو، بل الخطاب التاريخي ذاته الذي بات في حاجة إلى مراجعة.
قد تكون مفردات “النصر” و”الصفعة” و”الردع” عناصر مركزية في صناعة سردية رسمية موجّهة للداخل والخارج، لكنها تظل، في نهاية المطاف، أدوات لغوية لا تنفي الحقائق الميدانية المُسجلة والموثقة. فإعلان الانتصار من طرف واحد لا يُلغي حجم الضربات التي تلقاها النظام، ولا يبدد مشاهد الاختراقات الأمنية، ولا يُسعف بنية دفاعية وُضِعت على المحك. بل إن الإصرار على سردية النجاح، دون مراجعة واقعية لما جرى، يُهدّد بفقدان المصداقية أمام جمهور بات أكثر وعيًا، وأقل قابلية لابتلاع الشعارات.
الانتصار الحقيقي لا يُقاس بالتصريحات المسجلة، بل بمن يملك زمام المبادرة، ومن يُعيد تشكيل قواعد اللعبة. وفي هذا الميدان، لا تزال إيران تخوض معركة شاقة، بين الواقع الصلب… والرواية الناعمة.