الاتفاق الذي توصلت إليه فاعليات السويداء الدرزية مع الحكومة المركزية في دمشق مثير للإهتمام. وفق هذا الاتفاق، وهو دخل حيّز التنفيذ، يُفترض “تعزيز دور وزارة الداخلية والضابطة العدلية في السويداء، على أن يقتصر التنفيذ على أبناء المحافظة”. وهذا يفيد بأنّ أبناء السويداء الذين سبق أن تطوّعوا في المؤسسات العسكرية والأمنية التابعة لوزارة الداخلية في سوريا أو عادوا والتحقوا بها أو ينوون ذلك، هم المعنيون حصرا بحفظ الأمن في هذه المحافظة ومكافحة الجريمة ومطاردة المطلوبين. وعليه، يعتبر إرسال وزارة الداخلية لوحدات من خارج المحافظة تعديًا على السويداء وأبنائها، ويمكن إدراجه في خانة “الإعتداءات”.
وهذا الاتفاق، عمليا، يعني شيئًا واحدًا: تكريس منطق “الأمن الذاتي” في سوريا.
وما يمكن أن ينطبق اليوم على هذه المجموعة يمكن أن ينسحب على أخرى غدًا.
وكل ذلك يفيد، بأنّ سوريا، ولو من خلال راية الوحدة، تتجه، خطوة خطوة، في اتجاه “الفدرالية” طالما بقي التفاهم قائما مع الحكومة المركزية، وإلا نحو التقسيم، على أساس طائفي هناك (دروز، مثلا) وعلى أساس عرقي هناك (الأكراد، مثلا)، في حال انقلب التوافق إلى تصادم جديد.
وهذا المسار تسلكه سوريا، بفعل الأمر الواقع، إذ إنّ الحكومة السورية، في ضوء دخول الحمايات الخارجية على الخط بما في ذلك عسكريا كما تفعل إسرائيل، تجد نفسها عاجزة عن فرض رؤية موحدة للبلاد، ومضطرة على التراجع عن المبادئ التي وضعتها لجنة دستورية مختصة ووافق عليها الرئيس السوري أحمد الشرع. مبادئ كانت قد أثارت اضطرابات في أكثر من منطقة سورية، وشجعت الأكراد على التراجع عن اتفاق كان قد وقعه زعيم “قسد” مع الشرع.
مشكلة “الأمن الذاتي” في هذه الحالة، ومن خارج أي إطار دستوري، تكمن في أنّه، بدل أن يُضعف الصلات مع الخارج يضاعفها، لأنّه، في ظل الخلل في ميزان القوى بين “الإقليم المستقل” والحكومة المركزية، يجد “الإقليم المستقل” نفسه بحاجة دائمة الى الخارج، ليُبقي “الخطوط الحمراء” قائمة. وبفعل الحاج ة الى هذا النوع من التواصل مقابل الحماية، تتفتت الدولة المركزية، كلما تقدم الزمن.
لهذا، ثمة من يعتقد بأنّ الدفاع عن وحدة سوريا يقتضي المسارعة الى تغيير نظرة الأكثرية الى النظام وبناه الدستورية و”عقائده” العسكرية والأمنية، وإعادة النظر في نظرة الطوائف الى الدولة التي يتم تأسيسها، وإعادة نظر الدولة العتيدة الى الطوائف.
ولن تستطيع القوة، سواء كانت أقلية أو أكثرية، أن تفرض معادلاتها، إلّا إذا حظيت بمباركة إقليمية، تماما كما كانت عليه الحال مع حافظ وبشار الأسد، قبل أن ينهار نظامهما مع انهيار المعادلات الجيو- سياسية السابقة في الإقليم.
نظرية “الأمن الذاتي” ليست غائبة كليًّا عن الواقع اللبناني، ولكنّها غير معمّمة بعد. عمليًا، “حزب الله” يفرض في المناطق الشيعية اللبنانية هذا النوع من الأمن، بحجة حماية “المقاومة”. هو يختار القوى الأمنية التي يمكنها الدخول والتحرك في مناطقه. تخضع عدة وعديدا وإجراءات لموافقة مسبقة منه. القوى الحزبية المرضى عنها من السلطة، تفعل الأمر نفسه. وحدهم “المغضوب عليهم” يخضعون، بشكل كامل لسلطة المؤسسات التابعة لوزارتي الدفاع والداخلية، ويبدون امتعاضا متناميًا.
ولكنّ الأمور في لبنان، تتجه، مع التطورات الأخيرة، إلى حل “عادل” يحظى بغطاء دستوري، جرى تكريسه دوليا في السادس والعشرين من تشرين الثاني(نوفمبر) الماضي.
اتفاق الطائف ينص على “اللامركزية الإدارية الموسعة” التي من شأنها إعطاء البلديات واتحادها سلطة أمنية كبيرة. بطبيعة الحال، ستكون الشرطة والضابطة العدلية على مختلف اختصاصاتها، مرتبطة بالمنطقة وأبنائها. وبمجرد إقرار القانون الخاص باللامركزية الإدارية الموسعة، تتساوى كل المناطق في لبنان، لجهة تكييف أصول التعاطي مع السلطة “الإتحادية”.
“تفاهم وقف العمليات العدائية” بين لبنان وإسرائيل الذي جرى التوصل اليه بوساطة أميركية في السادس والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، ينصّ بوضوح على أنّ “الشرطة البلدية” هي من ضمن القوات العسكرية والأمنية الرسمية في لبنان، والتي يحق لها، حصرا، بحمل الأسلحة.
وهذا يعني أنّ الحل لما يثيره كثيرون من مخاوف على الأمن الداخلي الخاص بمدنهم وبلداتهم وقراهم، يكمن في تفعيل الأمن البلدي.
وفي ظل هذه الطمأنينة تنتفي حجج الانفصال هنا والارتباط بالخارج هناك والحاجة الى التسلح هنالك.
عانى لبنان الكثير من جراء الاستقواء، وأوصل كثيرين، وفي أكثر من مناسبة، إلى رفع رايات الطلاق والتقسيم والانفصال، ودفع ببعض القوى الى إقامة “الأمن الذاتي” ب طريقة فوضوية تتنافى والطبيعة الدستورية للبلاد.
سوريا حاليًا تحاول تنظيم “الفوضى”، بفعل الاضطرار، من دون أن تنكب على معالجتها. المخاوف في لبنان أن ينعكس ما يحصل في سوريا على “بلاد الأرز” مما يؤدي الى انقلاب المسار الإيجابي، في حال بقي الحل الوفاقي الذي نص عليه اتفاق الطائف، في جوارير “التسويف”!